فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصًا بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافيًا عن السلام.
قال المازري في كتاب المعلم على صحيح مسلم: الاستئذان مشروع.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن قال جماعة: الاستئذان فرض والسلام مستحب.
وروي عن عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم.
ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية.
قال الشيخ أبو محمد في الرسالة: الاستئذان واجب فلا تدخُلْ بيتًا فيه أحد حتى تستأذن ثلاثًا فإن أذن لك وإلا رجعت.
وقال ابن رشد في المقدمات: الاستئذان واجب.
وحكى أبو الحسن المالكي في شرح الرسالة الإجماع على وجوب الاستئذان.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: الاستئذان مشروع.
وهي كلمة المازري في شرح مسلم.
وأقول: ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان.
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب.
فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى: {ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} أي ذلكم الاستئذان خير لكم، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم.
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية.
وليس للاستئذان صيغة معينة.
وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد.
وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف.
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في صحيح البخاري وهو ما روي: عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يأذن لي فرجعت وفسره في رواية أخرى بأن عمر كان مشتغلًا ببعض أمره ثم تذكر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: استأذن ثلاثًا ثم رجع فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر: ما منعك؟ قال قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت.
وقال رسول الله: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع» فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة.
قال أبو موسى: أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك.
فقال عمر: خفِي عليّ هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق.
وقد علم أن الاستئذان يقتضي إذنًا ومنعًا وسكوتًا فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}.
والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من {ارجعوا} كقوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
ومعنى {ازكى لكم} أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية.
وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى.
وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدري أهو حق أم مواربة، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم.
وأما السكوت فهو ما بيّن حكمه حديث أبي موسى.
وفعل {تسلموا} معناه تقولوا: السلام عليكم، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل: رحّب وأهّل، إذا قال: مرحبًا وأهلًا، وحيّا، إذا قال: حيَّاك الله، وجزّأ إذ قال له: جزاك الله خيرًا.
وسهَّل، إذا قال: سهلًا، أي حللت سهلًا.
قال البعيث بن حريث:
فقلت لها أهلًا وسهلًا ومرحبًا ** فردت بتأهيل وسهل ومرحبِ

وفي الحديث: «تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين».
وهي قريبة من النحت مثل: بسمل، إذا قال: باسم الله، وحسبل، إذا قال: حسبنا الله.
و{على أهلها} يتعلق ب {تسلموا} لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها: السلام عليكم، كما يعدى رحَّب به، إذا قال: مرحبًا بك، وكذلك أهّل به وسهّل به.
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56].
وصيغة التسليم هي: السلام عليكم.
وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ونهى أبا جُزَي الهجيمي عن أن يقول: عليك السلام.
وقال له: إن عليك السلام تحية الميت ثلاثًا، أي الابتداء بذلك.
وأما الرد فيقول: وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله.
أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان.
وتقدم السلام في قوله تعالى: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} في سورة الأنعام: 54.
وأما قوله: {فإن لم تجدوا فيها أحدًا} إلخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهمًا بأن علة شرع الاستئذان ما يَكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم.
فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة.
والغاية في قوله: {حتى يؤذن لكم} لتأكيد النهي بقوله: {فلا تدخلوها} أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم.
وقوله: {والله بما تعملون عليم} تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها.
وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصيانًا لما أمر الله به.
فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون.
وخطاب {لا تدخلوا} يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} [النور: 58] كما سيأتي.
ولذا فإن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي.
وقرأ الجمهور: {بيوتًا} حيثما وقع بكسر الباء.
وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.
وقد تقدم في سورة آل عمران.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}.
هذا تخصيص لعموم قوله: {بيوتًا غير بيوتكم} [النور: 27] بالبيوت المعدة للسكنى، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة على طرق المسافرين لنزولهم، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية.
ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعًا وأقتابًا وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم.
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق.
وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع، والحمامات، وحوانيت التجار، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه.
فمعنى قوله: {غير مسكونة} أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة.
وأما الخوانيق جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاهْ وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم.
وقوله: {فيها متاع لكم} صفة ثانية ل {بيوتًا}.
والمتاع: الجهاز من العروض والسلع والرحال.
وظاهر قوله: {فيها متاع} أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول.
ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب.
وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس.
وقد فسر المتاع بالمصدر، أي التمتع والانتفاع.
قال جابر بن زيد: كل منافع الدنيا متاع.
وقال أبو جعفر النحاس: هذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين وهو موافق للغة، وتبعه على ذلك في الكشاف.
ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها.
وجملة: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجًا إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ}.
اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وذلك أن من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى: وقال ابن حجر في الفتح: وحكى الحطاوي: أن الاستئناس في لغة اليمن: الاستئذان. وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى.
الوجه الأول: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، ولما كان الاستئناس لازمًا للإذن أطلق اللازم، وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى: حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى بعده: {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} [النور: 28]، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية، والارداف، لأن هذا النوع منالاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.