فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره هاهنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر هاهنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال محمد بن على الترمذى قدس سره اليسر اسم الجنة لأن جميع اليسر فيها والعسر اسم جهنم لأن جميع العسر فيها معناه يريد الله بصومكم إدخال الجنة ولا يريد بكم إدخال النار.
قال شيخنا العلامة الفضلى قدس سره في الآية: إن مراده تعالى بأن يأمركم بالصوم يسر الدارين لا عسرهما إما اليسر في الدنيا فالترقى إلى الملكية والروحانية والوصول إلى اليقظة والمعرفة، وأما العسر فيها فالبقاء مع البشرية والحيوانية والاتصاف بالأوصاف الطبيعية والنفسانية، وأما اليسر في الآخرة فهو الجنة والنعمة والقربة والوصلة والرؤية، وأما العسر فيها فهو الجحيم وعذابها ودركاتها انتهى كلامه.
وقال نجم الدين في تأويلاته يعنى يريد الله بكم اليسر الذي هو مع العسر فلا تنظر في امتثال الأمر إلى العسر ولكن انظر إلى اليسر الذي هو مع العسر فإن العاقل إذا سقاه الطبيب شرابا مرا أمر من بلاء المرض موجبا للصحة فلا ينظر العاقل إلى مرارة الشراب ولكن ينظر إلى حلاوة الصحة ولا يبالى بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة. انتهى.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} ففيه مسائل:

.المسألة الأولى:

قرأ أبو بكر عن عاصم {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان: أكملت وكملت.

.المسألة الثانية: لقائل أن يقول: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} على ماذا علق؟

جوابنا: أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف، ثم فيه وجهان أحدهما: ما قاله الفراء وهو أن التقدير: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون، فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة في إباحة الفطر، وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظًا ثلاثة، فقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} علة للأمر بمراعاة العدة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علمتم من كيفية القضاء {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخص والتسهيل، ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] أي أريناه.
الوجه الثاني: ما قاله الزجاج، وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرًا، فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرًا، بل يكون سهلًا يسيرًا، والفرق بين الوجهين أن في الأول إضمارًا وقع بعد قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} وفي الثاني قبله:

.المسألة الثالثة: إنما قال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} ولم يقل: ولتكملوا الشهر؟

لأنه لما قال: ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعًا ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلًا لعدد المقضي، ولو قال تعالى: ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر؛ لظاهر الأمر في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة- رحمه الله- أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم. اهـ.

.قال القرطبي:

ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثًا؛ وروي عن جابر بن عبد اللَّه. ومن العلماء من يكبّر ويُهَلِّل ويُسَبّح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر: وكان مالك لا يَحُدّ فيه حدّا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي: واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل.
الله أكبر جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة الله أكبر كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئًا من النقص، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام. اهـ.

.قال ابن عطية:

{هداكم}، قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد. اهـ.
سؤال: لم عدى فعل التكبير ب {على}؟
الجواب: وتعديةُ فعل التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، ويجوز أن تكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ ويجوز عطفُها على {اليُسرَ} أي يريد بكم لتكملوا الخ كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} الخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد والثناءِ عليه، وقيل: تكبيرُ يومِ العيد وقيل: التكبيرُ عند الإهلال. اهـ.

.قال الألوسي:

وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى إليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللًا لما سبق، ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملًا على ما سبق إجمالًا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرًا له بالإجمال، والتفصيل يصح عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلًا أولًا، وإجمالًا ثانيًا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز أن تكون عللًا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير ولتكملوا العدة أوجب عليكم عدة أيام أخر ولتكبروا الله على ما هداكم علمكم كيفية القضاء {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الأعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الأعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر شيئًا أصلًا وتجعل العطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا الخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة تأكيدًا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك، وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضي إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن يكون {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} عطفًا على {يُرِيدُ} إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون، وحينئذٍ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل: رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا الخ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وإذا كان التكليف شاقًا ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيرًا ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: {لعلكم تشكرون} لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: {يريد الله بكم اليسر} وجاء عقيب قوله: {كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون} وقبله {ولكم في القصاص حياة} ثم قال: {لعلكم تتقون} لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}.
التفسير:
هذا حكم آخر.
والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء. قال الخليل: الصوم قيام بلا عمل. وصام الفرس صومًا أي قام على غير اعتلاف. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. ولابد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين. ويوافقه الجديد من قول الشافعي ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة.
ولابد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس، ومن العقل كل اليوم، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم. وقوله سبحانه: {كما كتب على الذين من قبلكم} أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علي كرم الله وجهه: أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم. {لعلكم تتقون} بالمحافظة عليها لقدمها، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفًا للنفس عن المناهي ومواقعة السوء، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم. وقيل: معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشرًا قبله وعشرًا بعده. وقيل: كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة. ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل {دراهم معدودة} [يوسف: 20] وأصله أن المال القليل يعدّ عدًّا، والكثير يحثى حثيًا كأنه قال: إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أيامًا معدودة قليلة، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان. ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين: الأول: أنها غير رمضان. فعن عطاء: ثلاثة أيام من كل شهر. وعن قتادة: هي مع صوم عاشوراء. ثم اختلفوا أيضًا فقيل: كان تطوّعًا ثم فرض وقيل بل كان واجبًا. واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صوم رمضان نسخ كل صوم» فدل على أن صومًا آخر كان واجبًا. وأيضًا ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها، فلو اتحد الصومان كان تكريرًا محضًا. وأيضًا ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان. والثاني: وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولًا ذكر الصيام، ثم بينه بعض البيان بقوله: {أيامًا معدودات} ثم كمل البيان بقوله: {شهر رمضان} وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان. وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة. سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخًا لصيام وجب بغير هذه الآية. وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجبًا مخيرًا، وفي الآية الثانية جعل واجبًا على التعيين، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانيًا في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولًا.
وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين، أما في نفس الصوم فلا. وههنا سؤال وهو أن قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} كيف كان ناسخًا للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخًا والمتأخر منسوخًا كآية الاعتداد بالحول. وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير. قال القفال: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فبين أولًا أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم بين ثانيًا وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى. ثم بين ثالثًا أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها. ثم بين رابعًا أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له. ثم ذكر خامسًا إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها. واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال: أحدها أن أيّ مريض كان، وأيّ مسافر كان، فله أن يترخص تنزيلًا للفظ المطلق على أقل أحواله، وهذا قول الحسن وابن سيرين. يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه. وعن داود: الرخصة حاصلة في كل سفرٍ ولو كان فرسخًا. وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم. وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله. وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه. قالوا:
وكيف يمكن أن يقال: كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيرًا يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به. المرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلمًا بالغًا عدلًا. وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم. وعن الأزهري: سمي مسافرًا لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء. قال الأوزاعي: السفر المبيح مسافة يوم. وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخًا ولا يحسب منه مسافة الإياب. كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة.
وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذٍ يناسب الرخصة، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» قال أهل اللغة: كل بريد أربعة فراسخ. وروى الشافعي أيضًا أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا فقال: إلى مرّ الظهران؟ فقال: لا. ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. وقال أبو حنيفة والثوري: رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل، أربعة وعشرين فرسخًا قياسًا على المسح. والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم. وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «يمسح المقيم يومًا وليلة» لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيمًا. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «والمسافر ثلاثة أيام» لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام. وأيضًا الترجيح للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وإنما قيل {أو على سفرٍ} دون أن يقول مسافرًا كما قال: {مريضًا} لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافرًا وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا.
وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون، وعدة المرأة من هذا. وإنما قيل {فعدّة} على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهرًا، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة. والمعنى فعليه صوم عدّة. وقرئ بالنصب أي فليصم عدّة. وأخر جمع أخرى تأنيث آخر، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا. واعلم أن قومًا من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا: لو صام في السفر قضى في الحضر. واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى: {فعدّة} أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه.
ولأن قوله: {يريد بكم اليسر} ينبئ عن إرادته الإفطار ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر» وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف. وقوله: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى: {وإن تصوموا خيرٌ لكم} ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال: «صم إن شئت وأفطر إن شئت».
قالوا وفي الآية إضمار التقدير: فمن كان مريضًا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى: {أو به أذى من رأسه ففديةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق فعليه فدية. ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد: أن الصوم أفضل. وقالت طائفةٌ: الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقيل: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. واختلف أيضًا في القضاء فعامة العلماء على التخيير. وعن أبي عبيدة بن الجراح: أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق. وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم: أنه يقضي كما فات متتابعًا ويؤيده قراءة أبي {فعدة من أيامٍ أخر متتابعات} قوله سبحانه: {وعلى الذين يطيقونه} فيه ثلاثة أقوال:
الأول: وهو قول أكثر المفسرين: أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين. والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه هاهنا عند أهل العراق- ومنهم أبو حنيفة- نصف صاع من بر أو صاع من غيره. وعند أهل الحجاز- ومنهم الشافعي- مدّ من غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين. قالوا: كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. عن سلمة بن الأكوع: لما نزلت {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فنسختها. من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك خاتم حديد ومن قرأ {مساكين} على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم. والاعتبار بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهمًا وثلث الدرهم.
الثاني: أن هذا راجع إلى المسافر والمريض. وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلًا وإليه الإشارة بقوله: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدّة من أيامٍ أخر} ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله: {وعلى الذين يطيقونه} قالوا: هذا أولى ليلزم النسخ أقل، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم.
الثالث: أنه نزل في الشيخ الهرم. عن السدي: وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة {يطوّقونه} تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه، أو يقلدونه. والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما. واتفقوا على أنا لشيخ إذا أفطر فعليه الفدية، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي: عليهما القضاء والفدية لحق الوقت. وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين. {فمن تطوّع خيرًا} بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب، أو صام مع الفدية عن الزهري. {فهو} أي التطوع {خير له وأن تصوموا} أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتهم متاعب الصيام {خيرٌ لكم} من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضًا عند من يرى أن الصوم لهما أفضل {إن كنتم تعلمون} أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية. عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزى به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
وعنه صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم» وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا».
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلًا ومنقبة.
هذا صوم الشريعة، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عز وجلّ والإفطار بما أباح وأحل، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن.
صمت عن غيره فلما تجلى ** كأن بي شاغلٌ عن الإفطار

وتشوّقت مدة ثم لما ** زارني جَلّ عن مدى الأنظار

قوله عز من قائل: {شهر رمضان} الشهر مأخوذ من الشهرة. عن مجاهد: رمضان اسم الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله» وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله.
والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون. ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل: أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار. وقيل: من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء. وفي الكشاف: الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقًا لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده» وكأن هذا من قولهم رمضت النصل جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق. وعن الأزهري: أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم. وقيل: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا» الحديث. لأن التسمية وقعت برمضان فقط. وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره {الذي أنزل فيه القرآن} أو على أنه بدل من الصيام في قوله: {كتب عليكم الصيام} أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان. وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان. قال أبو علي: وهذا أولى ليكون أيضًا في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبرًا عن إنزال القرآن فيه.
وقرئ بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من {أيامًا} أو على مفعول {وأن تصوموا} وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين {أن تصوموا} ومعموله بالخبر. وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه.
وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذٍ من العجائب ما كان. وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال. فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه السلام كذا. وقال ابن الأنباري: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول: أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها، وأنزل في الخمر كذا أي في تحريمها. والقولان متقاربان، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} الآيات. واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين» ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجمًا مفرقًا على حسب المصالح والوقائع، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر. ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها. وهذا قول محمد بن إسحاق.
أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجومًا، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات. ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولاسيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدير عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان. وعلى هذا القول يحتمل أن يقال: إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم منجمًا إلى آخر عمره. ويحتمل أن يقال: إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبدًا إلى أن تم إنزاله. وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعيًا لا شخصيًا {هدى للناس وبيناتٍ} منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية وذلك أن الهدى قسمان: جلي مكشوف وخفي مشتبه، فوصفه أولًا بجنس الهداية ثم قال: إنه من نوع البين الواضح. ويحتمل أن يقال: القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضًا بينات من هدى الكتب المتقدمة، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل، أو يقال: الهدى الأول أصول الدين، والثاني فروعه، فيزول التكرار.
نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في {فمن شهد} زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء هاهنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل: لما علمتم اختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضًا خصوه بهذه العبادة، ومعنى شهد أي حضر. ثم قيل: إن مفعوله محذوف {والشهر} منصوب على الظرف وكذلك الهاء في {فليصمه} ولا يكون مفعولًا به كقولك شهدت الجمعة لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر. فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر. وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذرًا من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم. أما إذا قيل: إن الشهر مفعول به مثل شهدت عصر فلان وأدركت زمانه فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّة من أيامٍ أخر} فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضًا به على صاحب الكشاف وغيره. قلت: الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع، وذلك أن {شهد} هاهنا متروك المفعول كقولهم فلان يعطى ويمنع ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة. وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه، فيكون أولى. فإن قيل: فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك {أو على سفرٍ} تكرارًا قلنا: إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض. وأيضًا لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر، ولو سلم فبالمفهوم أوّلًا وبالمنطوق ثانيًا، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكينًا في القلوب وتعظيمًا في النفوس كقوله:
أن يسأل الحق يعطى الحق سائله

وههنا بحث وهو أن قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} جملة شرطية، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي. وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور، والمعنى من شهد جزءًا من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر. ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه: أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل.
وأما سائر المجتهدين فيقولون: هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ} يخصصه، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة: إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى. قلت: لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه، أو المراد من عزم على كونه مقيمًا في الشهر فليصمه. ويعلم منه أنه إن كان حاضرًا في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ} فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعًا للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه، والصوم فيه عبادة مستقلة، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة، وفي قول قدر ركعة، وفي قول قدر تكبيرة، لزمها قضاؤها إذا طهرت. وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة» يعني عدة شعبان ثلاثين يومًا. ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الناس بالصوم. ولما روي أن عليًا عليه السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال: صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يومًا من رمضان، وللاحتياط في أمر العبادة. ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين، وعند أبي حنيفة: يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة. وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم. {يريد الله بكم اليسر} معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه. وفي الصحاح: قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه. أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وههنا يتحقق صدق قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولًا ضمنًا بقوله: {يريد الله بكم اليسر} ثم نفاه صريحًا بقوله: {ولا يريد بكم العسر} والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق. والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى، فإن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر. وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة. فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر.
قوله: {ولتكملوا} أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه. فعن الفراء: التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون. شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك. فقوله: {لتكملوا} علة الأمر بمراعاة العدة {ولتكبروا} علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر. {ولعلكم تشكرون} أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير. وعن الزجاج: أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل: لتعلموا ما تعملون ولتكملوا. والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم. ولا يخفى أن قوله: {ولعلكم تشكرون} يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال: إنه في قوة ولتشكروا.
وفيه أيضًا بعد ويحتمل أن يقال: {ولتكملوا} معطوف على اليسر كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله: {يريدون ليطفؤا} [الصف: 8] وإنما قيل {ولتكملوا العدة} ولم يقل ولتكملوا الشهر ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعًا. وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. والمراد بالتكبير قيل:
إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكرًا على ما وفق لهذه الطاعة. وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل. فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الاعتقاد القلبي. وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي. وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان، ولكنه شامل لجميع الأحيان. وقيل: هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى.
وأوّل وقته في العيدين جميعًا غروب الشمس ليلة العيد. وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه. لنا قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} قال الشافعي: سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول: {ولتكملوا العدة} أي عدة صوم رمضان {ولتكبروا الله} عند إكمالها، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال. والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثًا نسقًا وبه قال مالك. وقال أحمد وأبو حنيفة: يكبر مرتين. لنا الرواية عن جابر وابن عباس. وأيضًا فإنه تكبير موضوع شعارًا للعيد فكان وترًا كتكبير الصلاة.
قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن. واستحسن في الأم أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قاله على الصفا وهو: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا إله إلا الله والله أكبر قال في الشامل: والذي يقوله الناس لا بأس به أيضًا وهو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد. يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفرًا كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي. ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى. واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها. اهـ.