فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وصل تعالى بذكر السّتر ما يتعلّق به من أمر النظر؛ يقال: غضّ بصره يَغُضّه غضًّا؛ قال الشاعر:
فغُضّ الطَّرْف إنك من نُمَيرٍ ** فلا كَعْبًا بلَغْتَ ولا كِلابًا

وقال عَنْتَرة:
وأغض طرفي ما بدت لِيَ جارتِي ** حتى يُوارِي جارتِي مأواهَا

ولم يذكر الله تعالى ما يُغَض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرّم دون المحلّل.
وفي البخاري: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك؛ يقول الله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وقال قتادة: عما لا يحلّ لهم؛ {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} خائنة الأعْيُن من النظر إلى ما نُهِيَ عنه.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {من} زائدة؛ كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 74].
وقيل: {من} للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح.
وقيل: الغض النقصان؛ يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه؛ فالبصر إذا لم يمكَّن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص.
ف{مِن} من صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة.
الثالثة: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعْمَرُ طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته.
ووجب التحذير منه، وغضُّه واجب عن جميع المحرّمات وكلّ ما يخشى الفتنة من أجله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوسَ على الطُّرُقات» فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدّث فيها فقال: «فإذا أبَيْتُم إلا المجلس فأعطُوا الطريقَ حقّه» قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ البصر وكفّ الأذى وردُّ السلام والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر» رواه أبو سعيد الخُدْريّ، خرّجه البخاريّ ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ: «لا تُتبع النظرة النظرة فإنما لك الأُولى وليست لك الثانية» وروى الأوزاعِيّ قال: حدّثني هارون بن رِئاب أن غَزْوان وأبا موسى الأشعريّ كانا في بعض مَغازِيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غَزْوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نَفَرَت، فقال: إنك للحّاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك؛ فلقِيَ أبا موسى فسأله فقال: ظلمتَ عينك، فاستغفر الله وتُب، فإن لها أوّل نظرة وعليها ما كان بعد ذلك.
قال الأوزاعي: وكان غَزْوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفُجَاءة؛ فأمرني أن أصرف بصري.
وهذا يقوّي قول من يقول: إن {من} للتبعيض؛ لأن النظرة الأولى لا تُمْلَك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتّى أن يكون مقصودًا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفًا بها؛ فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج؛ لأنها تُمْلك.
ولقد كره الشعبِيّ أن يُديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته؛ وزمانُه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذاتٍ محرّمة نظر شهوة يردّدها.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي يستروها عن أن يراها من لا يحلّ.
وقيل: {ويحفظوا فروجهم} أي عن الزنى؛ وعلى هذا القول لو قال: من فروجهم لجاز.
والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام.
وروى بَهْز بن حكيم بن معاوية القُشَيْرِيّ عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يَمينك» قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: «إن استطعت ألا يراها فافعل».
قلت: الرجل يكون خاليًا؟ فقال: «الله أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس» وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالَها معه فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني.
الخامسة: بهذه الآية حرّم العلماء نصًّا دخول الحمام بغير مِئزر.
وقد روي عن ابن عمر أنه قال: أطْيَب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة.
وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو مُحرِم بالجحفة.
فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن؛ والأوْلَى بهن والأفضلُ لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن مَنيع حدّثنا الحسن بن موسى حدّثنا ابن لَهِيعة حدّثنا زَبّان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدَّرْداء أنه سمعها تقول: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال: «من أين يا أمّ الدرداء؟» فقالت من الحمام؛ فقال: «والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمّهاتها إلا وهي هاتكة كلّ ستر بينها وبين الرحمن عز وجل» وخرّج أبو بكر البزّار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا بيتًا يقال له الحمام» قالوا: يا رسول الله، ينقي الوسخ؟ قال: «فاستتروا» قال أبو محمد عبد الحق: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب؛ على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرّجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد؛ وكذلك ما خرّجه الترمذي.
قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدِّين؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسّطوا الحمام رموا مآزرهم، حتى يُرَى الرجل البَهِيّ ذو الشيبة قائمًا منتصبًا وسط الحمام وخارجه بادِيًا عن عورته ضامًّا بين فخذيه ولا أحد يغيّر عليه.
هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء! لاسيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المطاهر التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم!.
السادسة: قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط:
الأوّل: ألاّ يدخل إلا بنيّة التداوي أو بنيّة التطهير عن الرُّحَضاء.
الثاني: أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلّة الناس.
الثالث: أن يستر عورته بإزار صَفيق.
الرابع: أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور.
الخامس: أن يُغيّر ما يرى من منكر برفق، يقول: استتر سترك الله!
السادس: إن دلّكه أحد لا يمكّنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته.
وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا.
السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرطٍ أو بعادة الناس.
الثامن: أن يصبّ الماء على قدر الحاجة.
التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه.
العاشر: أن يتذكر به جهنم.
فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غضّ البصر.
ذكر الترمذِيّ أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا بيتًا يقال له الحمام» قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار؛ فقال: «إن كنتم لابد فاعلين فادخلوه مستترين» وخرّج من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعم البيت يدخله الرجل المسلم بيتُ الحمام وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار وبئس البيتُ يدخله الرجل بيتُ العروس» وذلك لأنه يرغّبه في الدنيا وينسيه الآخرة.
قال أبو عبد الله: فهذا لأهل الغفلة، صيّر الله هذه الدنيا بما فيها سببًا للذّكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصُب أعينهم فلا بيت حمّام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دَقّت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كُنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كقتلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا.
السابعة: قوله تعالى: {ذلك أزكى لَهُمْ} أي غضُّ البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام.
{إِنَّ الله خَبِيرٌ} أي عالم.
{بِمَا يَصْنَعُونَ} تهديد ووعيد.
قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} إلى قوله: {مِن زِينَتِهِنَّ}.
فيه ثلاث وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ} خصّ الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد؛ فإن قوله: {قل للمؤمنين} يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذَّكَر والأنثى من المؤمنين، حسب كلّ خطاب عام في القرآن.
وظهر التضعيف في {يَغْضُضْنَ} ولم يظهر في {يَغُضُّوا} لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأوّل متحركة، وهما في موضع جزم جوابًا.
وبدأ بالغَضّ قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب؛ كما أن الحُمَّى رائد الموت.
وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد ** ما تألف العينان فالقلب آلف

وفي الخبر: «النظر سَهْم من سهام إبليس مسموم فمن غضّ بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه».
وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزيّنها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عَجُزها فزيّنها لمن ينظر.
وعن خالد بن أبي عمران قال: لا تُتْبِعنّ النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرةً نَغِل منها قلبُه كما يَنْغَل الأديم فلا يُنتفع به.
فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها؛ وقصدها منه كقصده منها.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر»الحديث.
وقال الزهري في النظر إلى التي لم تَحِض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يُشْتَهَى النظرُ إليهن وإن كانت صغيرة.
وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري.
وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخَثْعَمِيّة حين سألته، وطَفِق الفضل ينظر إليها.
وقال عليه السلام: «الغَيْرة من الإيمان والمِذاء من النفاق» والمِذَاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخلّيهم يُماذِي بعضهم بعضًا؛ مأخوذ من المَذْي.
وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء؛ من قولهم: مَذَيْتُ الفرس إذا أرسلتَها تَرْعَى.
وكلّ ذَكَرَ يَمْذي، وكلّ أنثى تَقْذِي؛ فلا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحلّ له، أو لمن هي محرّمة عليه على التأبيد؛ فهو آمن أن يتحرّك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.