فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى عن ابن عامر أنه قرأ {عورات} بفتح الواو، والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة، ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ: {عورات} بالفتح ثم قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن، وإنما جعله لحنًا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون: روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان، وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلًا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو؛ وأنشدني بعضهم:
أبو بيضات رائح متأدب ** رفيق بمسح المنكبين سبوح

{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ} أي ما يسترنه عن الرؤية {مِن زِينَتِهِنَّ} أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك مما يورث الرجال ميلًا إليهن ويوهم أن لهن ميلًا إليهم.
أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالًا من فضة واتخذت جزعًا فمرت على قوم فضربت برجليها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله تعالى {وَلاَ يَضْرِبْنَ} الخ، والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت، ولهن من أنواع الحلى غير الخلخال ما يصوت عند المشيء أيضًا لاسيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته.
وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى.
وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن.
والمذكورات في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة، وكذا إن التذبه كما بحثه الزركشي.
وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام: صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التكبير للرجال والتصفيق للنساء» فلا يحسن أن يسمعه الرجل. اهـ.
ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق قيابهن ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوض الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكن أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانبي من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك، ومثله ما عمت به البلوى أيضًا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيرًا ما يأمرونهن به.
وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أيامًا إلى أن يعطوها شيئًا من الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعًا} تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون سبحانه وتعالى الآمر بهما لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لاسيما في الكف عن الشهوات.
وقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن الأغر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقد قالوا: إن هذا يلزم كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبججح والاستلذاذ دليل عن عدم صدق توبتهم.
وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى: {أَيُّهَ المؤمنون} تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الايمان موجب للامتثال حتمًا، وفي هذا دليل على أن المعاصي لا تخرج عن الايمان.
وقرأ ابن عامر {أَيُّهَ المؤمنون} بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن مسلمة.
ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها.
ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب كما في النشر بالألف على خلاف الرسم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة الدارين أو مرجوا فلا حكم. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {قل للمؤمنين} ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجًا أوَّلِيًّا، أي: قل لهم: {يغضُّوا مِنْ أبصارهم} و{مِن}: للتبعيض، والمراد: غض البصر عما يحرم، والاقتصار على ما يحل. ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة، إلا خوف الفتنة، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة. وفي الموطأ: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم، أو مع غلامها؟ قال مالك: لا بأس بذلك، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. اهـ. وقال ابن القطان: فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره وقال عياض: ليس بواجب أت تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها، وعلى الرجل غض بصره. ثم قال في الإكمال: ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقل لهم أيضًا: {يحفظوا فُرُوجَهُم} إلا على أزواجهم، أو ما ملكت إيمانهم، وتقييد الغض بمن التبعيضية، دون حفظ الفروج؛ لِما في النظر من السَّعَة، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت: ومذهب مالك: حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم، فإن تعذر التحرر مِنْهُ، كشغل البنات في الدار، باديات الأرجلِ، فليتمسك بقول الحنفي، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوي.
{ذلك أَزْكَى لهم} أي: أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة، {إن الله خبير بما يصنعون} وفيه ترغيب وترهيب، يعني: أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، فكيف يجيلون أبصارهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟! فعليهم، إذا عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على حَذر.

.قال ابن عجيبة:

{وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن}؛ بالتستر والتصون عن الزنا، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء، وهي من الرجل: ما عدا الوجه والأطراف، ومن النساء: ما بين السرة والركبة، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف، أو بشهوة.
وقيل: إن حصل الأمن من الشهوة جاز، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة.
{وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ} من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ. {ولا يُبدينَ زينتَهُن}؛ كالحُلي، والكحل، والخِصاب، والمراد بالزينة: مَوَاضِعُها، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا، وهي: الرأس، والأُذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع، والساق. والزينة هي: الإكليل، والقرط، والقلادة، والوِشاح، والدملج، والسوار والخلخال. {إلا ما ظهرَ منها}؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها، وهو الوجه والكفان، إلا لخوف الفتنة، زاد أبو حنيفة: والقدمين، ففي ستر هذه حرج؛ فإن المرأة لا تجد بُدًّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها، ولاسيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
{وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ} أي: وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ، جمع خمار، وهو ما يستر الرأس، {على جيوبهن} وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن، وكانت واسعةً، يبدو منها صدورهن وما حواليها، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن؛ سترًا لما يبدو منها. وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع، فَعُدِّيَ بعلى.
{ولا يُبدين زينتهنَّ} أي: مواضع الزينة الباطنة؛ كالصدر، والرأس، ونحوهما، كرره: ليستثني منه ما رخص فيه، وهو قوله: {إلا لِبُعُولَتِهِنَّ}؛ لأزواجهن، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج، {أو آبائِهنَّ} ويدخل فيهم الأجداد، {أو آباء بُعُولَتِهنَّ}؛ فقد صاروا محارم، {أو أبنائهن} ويدخل فيهم الأحفاد، {أو أبناء بُعولتِهِنَّ}؛ لأنهم صاروا محارم أيضًا، {أو إِخوانهن} الشقائق، أو لأب، أو لأم، {أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ} وإن سفلوا، ويدخل سائر المحارم، كالأعمام، والأخوال، وغيرهم؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم، فإن تحققت؛ حيل بينهم، وعدم ذكر الأعمام والأخوال، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم؛ حذرًا من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم، {أو نسائهنّ}؛ يعني جميع المؤمنات؛ فكأنه قال: أو صنفهن؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال، {أو ما ملكت أيمانُهنّ} يعني: الإماء المؤمنات أو الكتابيات، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي، والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْدًا، وهو قول مالك.
قال البيضاوي: رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- أتى فَاطِمَةَ بعبد، وَهَبَهُ لها، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال- عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُك»، فانظر من أخرجه.
واختلف: هل يجوز أن يراها عبد زوجها، وعبد الأجنبي، أم لا؟ على قولين.
{أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ} أي: الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، أو لخدمة، أو لشيء يُعْطَاهُ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم: هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ، أي: حاجة وشهوة إلى النساء؛ كالخَصِيِّ، والمُخَنَّثِ، والشيخ الهَرِم، والأحمق، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين: أن يكونوا تابعين، ولا إربة لهم في النساء. {أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء} أراد بالطفل: الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال فيه: طفل ما لم يراهق الحلُمُ. و{يظهروا} معناه: يطلعون بالوطء على عورات النساء، مِنْ: ظهر على كذا: إذا قوي عليه، فمعناه: الذين لم يطيقوا وطء النساء، أو: لا يدرون ما عورات النساء؟.
{ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ} كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها، فيعلم أنها ذات خُلْخال، فنُهين عن ذلك؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها، فيورث ميل الرجال إليهن. ويوهم أن لهن ميلًا إليهم. قال الزجاج: سماع صوت الزينة أشد تحريكًا للشهوة من إبدائها. اهـ.
الإشارة: غض البصر عما تُكره رؤيته: من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان. وفي الحديث: «من غض بصره عن محارم الله، عوضه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه» وفي إرسال البصر: مِنْ تشتيت القلب، وتفريق الهم، ما لا يخفى، وفي ذلك يقول الشاعر:
وإِنَّكَ إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ** لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ

تَرَى ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ ** عَلَيْهِ وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ

فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى، فلا يرون إلا تجليات المولى. قال الشبلي: {قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي: أبصار الرؤوس عن المحارم، وأبصار القلوب عما سِوَى الله. اهـ.
وقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال بعضهم: لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير؛ من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئًا من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح. اهـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس؛ من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها. والله تعالى أعلم.