فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.
أمر الله جل وعلا المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج: حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة المؤمنون وسأل سائل: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 56].
فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجه والموطوءة بالمك.
وقد بينا في سورة البقرة أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة، وقد أوضحنا الكلام على آية {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] في سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1]، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة الأحزاب وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] إلى قوله تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيرًا والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] وقوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68- 70] الآية إلى غير ذلك من الآيات، وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط كقوله: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165- 166] وقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 28- 29] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة هود وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة.
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى كما قال تعالى {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] الآية، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك.
اه منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآيتين [النور: 30] قال الزمخشري في الكشاف: من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبوية، فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وثديهن، وأعضادهن، وأسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثنى منه، ويجوزأن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء.
وعن ابن زيد كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. اه كلام الزمخشري.
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر. بل يدخل فيه دخولًا أوليًا حفظه من الزنى واللواط، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج لأن النظر بريد الزنى كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء الله تعالى وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة الأحزاب، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة الأحزاب.
وقول الزمخشري: إن {من} في قوله: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] للتبعيض قاله غيره، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها وعليه أن يغض بصره بعدها، ولا ينظر نظرًا عمدًا إلى ما لا يحل، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة لا يعول عليه. وقال القرطبي وقيل: الغض: النقصان: يقال: غض فلان من فلان: أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو موضوع منه ومنقوص، فمن صلة للغض، وليست للتبعيض، ولا للزيادة. اه منه.
والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير:
فغضّ الطّرف إنك من نمير ** فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

وقول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يواري جارتي مأواها

وقول الآخر:
وما كان غض الطرف منا سجية ** ولكننا في مذحج غربان

لأن قوله: غض الطرف مصدر إلى مفعوله بدون حرف.
ومن أمثلة تعدي الغض بمن قوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله، ولم يغض بصره عن الحرام، وهي قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19].
وقد قال البخاري رحمه الله: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نِساءَ العجم يكشفن صدورهن ورؤسهن، قال اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] قال قتادة: عما لا يحل لهم: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] خائنة الأعين النظر إلى ما نُهِيَ عنه. اه محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19] فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر، إلى ما لا يحل، جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.
منها ما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات،» قالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال: «إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه،» قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» انتهى هذا لفظ البخاري في صحيحه.
ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئًا فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يُفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَطفِق الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها الحديث.
ومحل الشاهد منه: أنه صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في الكلام على مسألة الحجاب في سورة الأحزاب.
ومنها ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما: من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت شيئًا اشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين: النظر، وزنى اللسان: المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك كله ويكذبه» اه هذا لفظ البخاري، والحديث منتفق عليه، وفي بعض روايات زيادة على ما ذكرنا هنا.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: فزنى العين النظر، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة.
ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلًا قد يتمكن بسببه حبها نم قبله تمكنًا يكون سبب هلاكه، والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنى وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
كسبت لقلبي نظرة لتسره ** عيني فكانت شقوة ووبالا

ما مر بي شيء أشد من الهوى ** سبحان من خلق الهوى وتعالى

وقال آخر:
ألم ترى أن العين للقلب رائد ** فما تألف العينان فالقلب آلف

وقال آخر:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدًا ** لقلبك يومًا أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر ** عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وقال أبو الطيب المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ** فمن المطالب والقتيل القاتل

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه ذم الهوى فصولًا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه، وذكر كثيرًا من أشعار الشعراء، والحكم النثرية في ذلك وكله معلوم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.
اعلم أولًا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة كوجهها وكفيها.
الثاني: أن الزينة هي ما يتزين به خارجًا عن بدنها.
وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان:
أحدهما: أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار.
والثاني: أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالكحل في العين، فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه، وكالخضاب والخاتم، فإن رؤيتهما تسلتزم رؤية اليد، وكالقرط والقلادة والسوار، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن كما لا يخفى.
وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك، ثم نبين ما يفهم من آيات القرآن رجحانه.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية وقوله تعالى: [النور: 31] أي لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخعي، وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الزينة: القرط، والدملوج، والخلخال، والقلادة.