فصل: معركة الحجاب والسفور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مقدمة الطبعة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إلى إلا الله وحده وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102).
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} (النساء: 1).
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} (الأحزاب: 70).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
بين يديك- أيها القارئ- مواقف تاريخية تبين لك فصول المعركة التي نشبت في أواخر القرن الماضي واستمرت أمدًا بعيدًا بين الحجاب وبين السفور بين العفة والفضيلة وبين التهتك والرذيلة.
وقد تركز البحث حول تاريخ هذه المعركة في مصر وإن كان من حقه أن يستوفي تفاصيل المعركة في سائر البقاع الإسلامية ولهذا الأمر مسوغات:
منها عزة المصادر المرضية التي يمكن من خلالها استنباط المقصود.
ومنها أن مصر لما لها من مركز حساس ولما تتمتع به من صدارة تؤهلها للقيادة الفكرية- يقر بها الجميع- كانت الأسوة والقدوة في شتى المجالات بعامة وفي مجال المرأة بخاصة الأمر الذي جعل من فصول المعركة خارجها صورة مطابقة لما حدث فيها ولا ينسى التاريخ وصية الملك عبد العزيز لأبنائه بأن يقيسوا حال الأمة العربية قوة وضعفًا بحال مصر فهي ميزان قوة العرب والمسلمين.
ولا ينسى التاريخ أن دفاع المسلمين المصريين ضد الإنكليز وعملائهم من دعاة ما يسمى بتحرير المرأة كان انطلاقًا من وجهة نظر الشاعر أحمد محرم التي يلخصها قوله مشيرًا إلى مصر:
احفظوها إن مصر إن تضع ** ضاع في الدنيا تراث المسلمين

ومن هنا لم يكن عفوًا أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثقله ولم يكن عفوًا أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال دنلوب هذا الكاهن الذي:
خلع عنه ثوب الكهنوت ودخل في خدمة الحكومة يدير مدارسها في خلال ربع قرن فكان يناهض القرآن مناهضة سرية متواصلة وأمثال كرومر الذي تخرج هو ودنلوب من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا وغيرهم من النصارى الذين رحلوا إلى مصر ليتخذوها قاعدة انطلاق وليجندوا زملاءهم من المنافقين والمنافقات الذين أظهروا أسماء المسلمين وأبطنوا قلوب الذئاب {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} (البقرة: 9).
فمن هنا جاز تجريحهم وكشف عوارهم تحذيرًا منهم ونصيحة للمسلمين كما بين ذلك علماء الجرح والتعديل {ولا عدوان إلا على الظالمين} (البقرة: 193).
ولله در القائل:
من الدين كشف الستر عن كل كاذب ** وعن كل بدعي أتى بالعجائب

ولولا رجال مؤمنون لهدمت ** صوامع دين الله من كل جانب

هذا وقد حرصت أن أعزو- ما استطعت- كل قول إلى قائله لأخرج من تبعته وقصرت جهدي على الجمع والترتيب إلا فيما لابد منه من التوضيح والتهذيب.
وهذا الجزء هو الأول من مجموعة عودة الحجاب يتلوها إن شاء الله تعالى الأجزاء:
الثاني، وموضوعه: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية.
والثالث، ويتضمن: مقدمة في ذم التبرج والحث على الحجاب- شروط زي المرأة المسلمة- الاختلاط وأضراره- معاني الحجاب وتاريخه- بدعة الدعوة إلى السفور- السفور والغيرة- السفور والحياء- أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب انتقاب المرأة وسرد المذاهب في ذلك ومناقشة أدلة المخالفين.
والرابع، ويتضمن: ثلاث قضايا جامعة: تعليم المرأة، وعمل المرأة، وأحكام القرار في البيوت- يسر الله إتمامها.
- هذا عدا مسائل أخرى تفرعت من أبواب هذا البحث تعم الحاجة إلى تبيينها وإن بعدت عن المقصود الأصلي منه ولكن قد يذكر الشيء بالشيء وتصح الإضافة بأدنى مشابهة في الزي والفيء وكلها نبضات قد يعوزها الترتيب والتنسيق ولكن أرجو ألا يعوزها الصدق والتوفيق والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل سعيي هذا مشكورًا وجهدي في هذا الجمع والترتيب- وإن كنت مقلًا- مبرورًا ويتوب علينا وعلى سائر العصاة فيما فرط منا من السيئات والذنوب توبة لا يصيبنا بعدها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وحسبي بعد ذلك أن أدعو الله أن لا يصرف من نيتي شيئًا إلى غيره وأن يوفقني كي لا أبتغي بما سطرته إلا وجه الله والدار الآخرة فإن من كان همه هناك كان في شغل شاغل عن مدح المادحين وقدح القادحين {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله وعليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88).
والحمد لله رب العالمين.

.معركة الحجاب والسفور:

.قضية المرأة بين المنهزمين والمتآمرين:

إن جملة الأحكام التي يطلق عليها عنوان الحجاب هي في الحقيقة مشتملة على أهم أجزاء النظام الاجتماعي في الإسلام فإذا وضعت هذه الأحكام موضعها الصحيح في النظام الإسلامي بكامله ثم تأملها أحد فيه أثارة من البصيرة الفطرية السليمة لم يلبث أن يعترف بأنها الصورة الوحيدة الممكنة التي تضمن القصد والاعتدال في الحياة الاجتماعية وأن هذه الأحكام لو عرضت على العالم منفذة في الحياة العملية بروحها الحقيقية الصحيحة لهرولت الدنيا المنكوبة إلى هذا النبع الصافي تلتمس فيه الدواء لأدوائها الاجتماعية المتفشية بدل أن تنفر منه أو تطعن عليه.
في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ومطلع القرن التاسع عشر فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي وبينما المسلمون في هجود الكرى لم يستيقظوا بعد كل اليقظة جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر حتى شرق العالم الإسلامي وغرب وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدًا للغرب الأوربي وخولًا له والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه ورهبة بأسه وسطوته.
ولما بلغ هذا الانقلاب تمامه بدأت في المسلمين آثار اليقظة والحركة فلما فتحوا أعينهم على الحال التي قد صاروا إليها فشلت ريحهم وزال عنهم بغتة ذلك الفخار والاعتزاز الذي طالما تأصل فيهم لبقائهم في عز الغلبة ومجد السيادة قرونًا متوالية فعادوا يفكرون في أنفسهم كالسكران يفيقه توالي الضربات من عدو شديد ويبحثون عن الأسباب التي هبطت بهم وغلبت الإفرنج عليهم غير أن عقولهم لم تكن ثابت بعد إلى رشدها إذ كان السكر لا ريب قد ذهب عنهم ولكن ميزان الفكر كان لا يزال مختلًا فيهم:
فبجانب كان يلح بهم شعور بالذلة والهوان ويؤزهم أزًا على تبديل ما هم فيه من الأحوال وبجانب آخر يغلبهم من حب الراحة وإيثار الدعة والارتخاء ما يحملهم على توخي أقرب الطرق وأسهلها لتبديل تلك الحالة وقد خارت فيهم من جهة ثالثة قوى الفكر والعقل وصدئت ملكات الفهم والذكاء بطول تعطلها عن العمل زد على ذلك كله ما أخذ بمجامع نفوسهم من الدهشة والروعة التي تعتري بالطبع كل أمة منهزمة مستعبدة.
وتغلغلت هذه العوامل في محبي الإصلاح من المسلمين وأوقعتهم في كثير من الضلالات العقلية والعملية فأكثرهم ما كادوا يفطنون للأسباب الحقيقية في ارتقاء أوربة وانحطاطهم وأما الذين فهموها منهم وأدركوها فأعوزهم من بعد الهمة والعزيمة ما يتشجعون به على اختيار الطريق الوعرة للرقي والتقدم وكان من وراء ذلك كله الروعة والدهشة التي تعتري الطائفتين على السواء فلما مضوا بهذه العقلية المريضة الزائفة يريدون الإصلاح لم يروا أضمن للرقي من ولا أدنى للوصول إليه من أن يحاكوا في حياتهم اليومية كل مظاهر التمدن والحضارة الغربية فيعودوا كالمرآة الصافية يرى فيها خيال الروضة والأزهار والرياحين وليس فيها من حقيقة هذه المناظر من شيء.
«لتتبعن سنن من كان قبلكم» وهذه هي الفترة الانهزامية التي غدت الأمم الإسلامية فيها تحاكي أمم الغرب في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية في آداب المجالس وأطوار الحياة حتى في الحركة والمشي والتكلم والنطق لقد حاولوا تشكيل المجتمع المسلم على الصيغة الغربية وقبلوا الإلحاد والدهرية والمادية في نشوة التجدد بدون حيطة أو شعور بالعواقب وعدوا من لوازم التنور الفكري إيمان المرء بكل ما بلغه من قبل الغرب من فكرة ناضجة أو فجة والإفاضة فيه في مجالسه ورحبوا بالخمر والقمار واليانصيب والتهتك والرقص وما إلى ذلك من ثمرات الحضارة الغربية ثم سلموا بجميع معتقدات الغرب وأعماله في الأخلاق والآداب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون حتى في العقائد الإيمانية والعبادات سلموا بكل ذلك من غير فهم أو شعور ومن غير نقد أو تجريح كأنه تنزيل من السماء ليس لهم قبله إلا أن يقولوا: آمنا وأصبح المسلمون أنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير ولو كان هذا الشيء من الأمور الثابتة في الشرع الحنيف وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السبة عن أنفسهم:
- اعترض الغربيون على ما عندهم من أحكام الجهاد فقال هؤلاء المنهزمون: ما لنا وللجهاد يا سادة؟ إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية..
- اعترضوا على الرق فقال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلًا.
- وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات فجاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه.
- ثم قال أولئك الغربيون: لابد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي الحياة فوافقهم المنهزمون وقالوا: وهذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه.
- وطعن القوم في أحكام الزواج والطلاق في الإسلام فقامت طائفة من المنهزمين تعالجها بالإصلاح والتعديل.
- ولما عابوا الإسلام بأنه عدو لما يسمى الفنون الجميلة استدرك هؤلاء قائلين: كلا بل ما زال الإسلام مذ كان يحتضن هذه الفنون ويحضوا عليها ويشرف على الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل.
ففي سبيل دفع تهم الجمود التي يلصقها الغربيون بالشريعة رأينا هؤلاء المنهزمين ينجرفون إلى أقصى الطرف المناقض في بيان ما تنطوي عليه الشريعة من مرونة التطبيق حتى يبلغوا بهذه المرونة حد الميوعة وانعدام الذات والمقومات تلك الميوعة التي تجعلها صالحة لأن تكون ذيلًا لأي نظام وتبعًا للأهواء وبذلك ينتهون إلى إلغاء وظيفة الدين لأنهم بدلًا من تقويم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتالون على نصوص الشريعة حتى يبرروا بها عوج الحياة المعاصرة.
نشأة مسألة الحجاب:
كان هذا الدور أخبث الأدوار وأخزاها في تاريخ المسلمين ففي هذا العصر نشأت مسألة الحجاب ولو كان البحث في هذه المسألة مقصورًا على تعيين الحد الذي وضعه الإسلام لحرية المرأة لهان الأمر ولم يستعص حله لأن أكثر ما هنالك من الاختلاف بين المسلمين في هذا الباب هو منحصر في وجه المرأة ويديها: هل يجوز إبداؤها أم لا؟ وليس في هذا كبير خطورة ولكن الواقع هاهنا غير ما ذكرنا.
الواقع في الحقيقة أنه نشأت هذه المسألة في المسلمين لكون الغرب قد نظر إلى الحجاب والنقاب بعين المقت والازدراء وصوره أقبح تصوير وأشنعه فيما كتب ونشر وعدَّ حبس المرأة- على حد تعبيره- من أبرز عيوب الإسلام ولكن أنى للمنهزمين أن يغضوا عن هذه النقيصة التي أخذها سادتهم عليهم فيما أخذوا؟! لقد فعلوا في هذه المسألة- الحجاب- مثل ما فعلوا في مسائل الجهاد والرق وتعدد الزوجات وما شاكلها من المسائل فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها وأقوال الفقهاء لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم هذا العار الذميم الذي عيرهم به الغربيون.