فصل: عبرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.عبرة:

والآن فلنتوقف- إلى حين- لنطالع هذه العبرة كما حكاها الكاتب الأديب المنفلوطي في مقال له في مسألة الحجاب قال رحمه الله:
ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئًا فلبث فيها بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرف منه شيء: ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها وعلى السماء وخالقها وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئًا فوقها ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها وذهب بنفس مملوءة حكمة ورأيًا وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملأه إلا الهواء المتردد وذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه ووطنه وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما وكنت أرى أن هذه الصور الغريبة التي يتراءى بها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغًا لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تنصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء وأن مكان المدنية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق فلبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر متحملًا في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة بمثلي باحتمال مثله حتى جاء في ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهدي به دخلت عليه فوجدته واجمًا مكتئبًا فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء فسألته ما باله؟
فقال: ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ولا أدري مصير أمري فيه قلت: وأي امرأة تريد؟
قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي وأنا أسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي قلت: إنك كثير الآمال يا سيدي ففي أي آمالك تَحَدَّث؟
قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعًا على وجه امرأة في هذا البلد.
قلت: ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه قال: إن كثيرًا من الناس يرون في الحجاب رأيي ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهم إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي القديم الذي وقف سدًا دون سعادة الأمة وارتقائها دهرًا طويلًا وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام وزعمت إنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءًا منهن وخجلًا ولا خجل هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينقلهن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة فلابد لي أن أبلغ أمنيتي وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجًا ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي همًا وحزنًا ونظرت إليه نظرة الراحم الرائي: أعالم أنت أيها الصديق ما تقول؟
قال: نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعًا حيث وقعت.
قلت: هل تأذن لي أن أقول لك أنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهن ونسائهن فهل تذكر أن نفسك حدثتك يومًا من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟
قال: ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟ قلت: أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك.
قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال وهي من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع.
فداخلني ما لم أملك نفسي منه وقلت له: تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم الشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافيًا رائقًا حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها وقلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة.
قال: أتنكر وجود العفة بين الناس؟
قلت: لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله والضعفاء والمتكلفين ولكنني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم: أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة: لِمَ لم تتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعًا نسائي أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه حياءًا وخجلًا إن خلت محفظته يومًا من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته وأقفرت من رسائل الحب والغرام أم في جو الرعاع والغوغاء وكثير منهم يدخل البيت خادمًا ذليلًا ويخرج صهرًا كريمًا؟ وبعد فما هذا الولع بقصة المرأة والتمطق بحديثها والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها وحريتها وأسرها كأنما قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز أبواب الفخر أمامكم كثيرة فاطرقوا أيها شئتم ودعوا هذا الباب موصدًا فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلًا عظيمًا وشقاءًا أروني رجلًا واحدًا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندها ما لا تعفونه عند أنفسكم فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أم تخسرونها وما أحسبكم إلا خاسرين ما شكت المرأة إليكم ظلمًا ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها فما دخولكم بينها وبين نفسها وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟
إنها لا تشكوا إلا فضولكم وإسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيث سارت وأينما حلت حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلًا إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها فأوصدت من دونها بابها وأسبلت أستارها تبرمًا بكم وفرارًا من فضولكم فواعجبًا لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها! إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجًا وسفورًا ويتدفق خلاعة واستهتارًا وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقبًا والعفة تسيل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرش ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشها ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها أو وقفة تقفها بين يدي ربها أو عطفة تعطفها على ولدها أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عن رضاهما وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها كما تحب ولدها لأنه ولدها فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب فقلتم لها:
إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلًا ولا أفضل رأيًا ولا أقدر على النظر لك من النظر لنفسك فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك فازدرت أباها وتمردت على زوجها وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها وقلتم لها:
لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها فلم يزد عمر سعادتها عن يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم وقلتم لها:
إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فغنيت به عنه وقلتم لها:
أن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق فأصبحت كل يوم تبغي زوجًا جديدًا يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم فلا قديمًا استبقت ولا جديدًا أفادت وقلتم لها:
لابد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شئون بيتك فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شئون بيتها وقلتم لها:
نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا وشعورها شعورنا فرأت أن لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومباهج انظاركم لتتجمل لكم بما تحبون فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضحكات اللاعبات والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن وتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم وتنزل عند محبتكم ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضًا كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم عنها وقلتم لها:
إنا لا نتزوج النساء العاهرات لأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعًا ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الخليع وترفع عنها المحتشم فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت كذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعًا وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالًا مترهبين ونساء عانسات.
ذلك بكاؤكم على الرماة أيها الراحمون وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم فليهذبها أبوها وأخوها أنفع لها من العلم وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نسائهم وإلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما برؤية الحياة فيأذن لها أولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها كما يرافق الشاه راعيها خوفًا عليها من الذئاب فإن عجزنا أن نأخذ الآباء والأزواج بذلك فلننفض أيدينا من الأمة جميعًا نسائها ورجالها فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها.