فصل: بَابٌ فِي عِدَدِ قَضَاءِ رَمَضَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بَابٌ فِي عِدَدِ قَضَاءِ رَمَضَانَ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَذَكَر بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: إذَا صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا وَعَلَى الْمَرِيضِ الْمُفْطِرِ قَضَاءُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي رَمَضَانَ بِالْأَهِلَّةِ.
وَذَكَرَ عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَرِضَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ عَنْ غَيْرِ قَضَاءٍ: أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَنْ مَرِضُ رَمَضَانَ وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا: إنَّهُ يَصُومُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ مَرِضَ رَجُلٌ شَهْرَ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ شَهْرًا يَقْضِيهِ فَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أَفْطَرَ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى غَيْرِ اسْتِقْبَالِ شَهْرٍ أَتَمَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا إلَّا شَهْرًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَرَادَ الْمَرِيضُ الْقَضَاءَ، فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ شَهْرِ الصَّوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ سَوَاءٌ ابْتَدَأَ بِالْهِلَالِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَمَعْنَاهُ: فَعَدَدٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» يَعْنِي الْعَدَدَ.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْعَدَدِ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِيهِ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا، فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ شَهْرًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ؛ الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ» فَأَيُّ شَهْرٍ أَتَى بِهِ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَهْرٌ بِشَهْرٍ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى: فَشَهْرٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ وَإِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ اسْتِيفَاءُ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي الْعَدَدَ؛ فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ ثَلَاثِينَ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ عَدَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى شَهْرٍ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَمَا كَانَ مُكْمِلًا لِلْعِدَّةِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ شَهْرَا بِشَهْرٍ وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ إفْطَارَهُ بَعْضَ رَمَضَانَ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا أَفْطَرَ بِعَدَدِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إفْطَارِ جَمِيعِهِ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِهِ.
وَأَمَّا إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَأَهْلُ مِصْرٍ آخَرَ لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَصْحَابُنَا عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَاءَ يَوْمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فَأَوْجَبَ إكْمَالَ عِدَّةِ الشَّهْرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُونَ يَوْمَا، فَوَجَب عَلَى هَؤُلَاءِ إكْمَالُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقَدْ أُرِيدَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ الْعِلْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ؛ فَلَمَّا صَحَّ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ، قِيلَ لَهُ: هُوَ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ بِمُضِيِّهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرُ قَدْ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، وَاَلَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ قَدْ غُمَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُدُّوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» يُوجِبُ اعْتِبَارَ رُؤْيَةِ كُلِّ قَوْمٍ فِي بَلَدِهِمْ دُونَ اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَكُلُّ قَوْمٍ رَأَوْا الْهِلَالَ فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ فِي الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ».
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِمْ وَأَنْ يُفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ انْتِظَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُخَاطَبٌ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» عَامٌّ فِي أَهْل سَائِرِ الْآفَاقِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَهْلِ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَجَبَ اعْتِبَارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، فَإِذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَ غَيْرُهُمْ أَيْضًا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ، فَعَلَى هَؤُلَاءِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ بِمَا يُوجِبُ صَوْمَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا الْمُحْتَجُّ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ الْآفَاقِ اعْتِبَارُ رُؤْيَتِهِمْ دُونَ انْتِظَارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا تَكُونَ رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ مُخَالِفَةً لِرُؤْيَتِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَدَدِ، فَكُلِّفُوا فِي الْحَالِ مَا أَمْكَنَهُمْ اعْتِبَارُهُ وَلَمْ يُكَلَّفُوا مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ لَهُمْ غَيْرُهُ عَمِلُوا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ ضَبَابٌ وَشَهِدَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ قَبَل ذَلِكَ، لَزِمَهُمْ الْعَمَلُ عَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ دُونَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا كُرَيْبٌ «أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، فَاسْتَهَلَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْنَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُهُ حَتَّى نُكْمِلَ الثَّلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَهَذَا لَا يَدُلَّ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَأَجَابَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَ فِيهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» عَلَى مَا قَالُوا؛ بَلْ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُلْنَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فَلَمْ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ كَانَ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَصَامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ قَالَ: لَا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَا أَهْلُ مِصْرِهِ، إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ قَدْ صَامُوا يَوْمَ الْأَحَدِ فَيَقْضُوهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُمْ صَامُوا لِرُؤْيَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا.
وَمَسْأَلَتُنَا هِيَ فِي أَهْلِ بَلَدَيْنِ صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةٍ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْآخَرِينَ، وَقَدْ يَحْتَجُّ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَالَ: «وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ» وَرَوَى أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ»، قَالُوا: وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ كُلِّ قَوْمٍ يَوْمَ صَامُوا وَفِطْرُهُمْ يَوْمَ أَفْطَرُوا.
وَهَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ غَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ أَهْلَ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ صَوْمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ فِيمَا لَزِمَهُمْ فَهُوَ مُوجِبٌ صَوْمَ مَنْ صَامَ الْأَكْثَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَوْمًا لِلْجَمِيعِ وَيَلْزَمُ مَنْ صَامَ الْأَقَلَّ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَثَبَّتَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُثَبِّتْهُ الْآخَرُونَ.
وَقَدْ تُكُلِّمَ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَمِيعَ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى صَوْمِ يَوْمٍ فَهُوَ صَوْمُهُمْ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا احْتَاجُوا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ صَوْمُكُمْ يَوْمَ يَصُومُ بَعْضُكُمْ وَإِنَّمَا قَالَ صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَوْمَ الْجَمِيع.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍفي نَفْسِهِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِمَا عِنْدَهُ دُونَ مَا هُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَمَنْ صَامَ يَوْمًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا كَلَّفَهُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الْمُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْضًا.
قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} قَالَ أَبُو بَكْرِ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْيُسْرَ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ وَفِي الْمَرَضِ، وَيُحْتَمَلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيُضِرُّهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ صَائِمٌ: {لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ}، فَأَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ اللَّه يُرِيدُ مِنْكُمْ مِنْ الصَّوْمِ مَا تَيَسَّرَ لَا مَا تَعَسَّرْ وَشَقَّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَبَاحَ الصَّوْمَ فِيهِ لِمَنْ لَا يَضُرُّهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَّبِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} غَيْرُ نَافٍ لِجَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَضُرُّ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُرِيدٍ مِنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَجْزَأَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ إثْبَاتُ الْعُسْرِ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْيُسْرِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي فِعْلِ الصَّوْمِ وَتَرْكِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَكُلَّ مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى الصَّبِيِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِأَنَّ فِي احْتِمَالِ ضَرَرِ الصَّوْمِ وَمَشَقَّتِهِ ضَرْبًا مِنْ الْعُسْرِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ بِنَا؛ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِالْإِنْسَانِ وَيُجْهِدُهُ وَيَجْلِبُ لَهُ مَرَضًا أَوْ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْيُسْرِ، نَحْوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ وَلَا يَجِدُ زَادًا وَرَاحِلَةً فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْيُسْرَ.
وَهُوَ دَالٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ إلَى الْقَابِلِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْعُسْرِ وَنَفْيِ الْيُسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ إنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا أَوْ أُبِيحَتْ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ نَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} قَدْ اقْتَضَى تَخْيِيرَ الْعَبْدِ فِي الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَضَاءَهُ مُتَفَرِّقًا أَوْلَى بِمَعْنَى الْيُسْرِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْعُسْرِ، وَهُوَ يَنْفِي أَيْضًا إيجَابَ التَّتَابُعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ، وَمَنْعِهِ التَّأْخِيرَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي مَعْنَى الْيُسْرِ وَيُثْبِتُ الْعُسْرَ، وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهُ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ مَا لَا يُطِيقُ وَمَا لَيْسَ مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْسَرِ الْعُسْرِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ إرَادَةَ الْعُسْرِ لِعِبَادِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الصَّوْمِ فَاعِلٌ لِمَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ مِنْهُ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ، وَأَهْلُ الْجَبْرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ مُرِيدُهُ مِنْهُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ بِهَذَا مَا نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِنْ إرَادَةِ الْمَعَاصِي، وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ لِيَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا لِيَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ؛ لِأَنَّ مُرِيدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْيُسْرِ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِلْعُسْرِ وَلِمَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ وَالْحَمْدَ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ وَأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّهُ مَتَى غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْنَا إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، لِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَقَالَ: {صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ} فَجَعَلَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِينَ عِنْدَ خَفَاءِ الْهِلَالِ.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، لِإِخْبَارِهِ أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَائِهِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصِدُ إكْمَالَ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ فِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ مَعَ حُصُولِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَّا إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَفِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَإِثْبَاتُ مَا لَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَقْصِدِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ، فَالْقَائِلُ بِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ إذَا صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وَأَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ إذَا صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ ثَلَاثِينَ أَنَّ عَلَى الَّذِينَ صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَنْ يَقْضُوا يَوْمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَقَدْ حَصَلَ عِدَّةُ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُكْمِلُوهَا كَمَا كَانَ عَلَى أُولَئِكَ إكْمَالُهَا؛ إذْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ بَعْضًا مِنْ كُلٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا لِلَّهِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ إذَا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ وَخَارِجَةَ بْنِ زِيدَ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ يَوْمَ الْعِيدِ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمُصَلَّى.
وَرَوَى حَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَتَهُ يَوْمَ الْأَضْحَى فَلَمْ يَزَلْ يُكَبِّرُ حَتَّى أَتَى الْجَبَّانَةَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْمُصَلَّى فَيَسْمَعُ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَيَقُولُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ فَأَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: أَمَجَانِينُ النَّاسُ؟ فَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ التَّكْبِيرَ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَهُ التَّكْبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ الَّذِي يُكَبِّرُهُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ مَعَهُ.
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا نَظَرُوا إلَى هِلَالِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَهْرِ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَكْبِيرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَلَّى؛ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى تَكْبِيرِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَاخْتَلَفْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: يُكَبِّرُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْعِيدِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطَرِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَقَالَ عَمْرٌو: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ: نَعَمْ يُكَبِّرُ وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ التَّكْبِيرَ فِي الْعِيدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الطَّرِيقِ وَلَا فِي الْمُصَلَّى، وَإِنَّمَا التَّكْبِيرُ الْوَاجِبُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ كَانَ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يُكَبِّرُوا فِي الطَّرِيقِ إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَأْتُوهُ، وَلَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ مَا حَكَاهُ الْمُعَلَّى عَنْهُمْ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: يُكَبِّرُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ مَالِكٌ: وَيُكَبِّرُ فِي الْمُصَلَّى إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَلَا يُكَبِّرُ إذَا رَجَعَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أُحِبُّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَلَيْلَةَ النَّحْرِ وَإِذَا عَدَوْا إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَتَّى يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَكْبِيرُ اللَّهِ هُوَ تَعْظِيمُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: عَقْدُ الضَّمِيرِ، وَالْقَوْلُ، وَالْعَمَلُ، فَعَقْدُ الضَّمِيرِ هُوَ اعْتِقَادُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَزَوَالِ الشُّكُوكِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ فَالْإِقْرَارُ بِصِفَّاتِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَسَائِرِ مَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَعِبَادَتُهُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ الْأَعْمَالِ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا بَعْدَ تَقْدِمَةِ الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا، وَأَنْ يَتَحَرَّى بِجَمِيعِ ذَلِكَ مُوَافَقَةَ أَمْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فَشَرَطَ بَدِيًّا تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ إرَادَةَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَهُوَ السَّعْيُ، وَعَقَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرِيطَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إلَى مَا يُؤَدِّينَا إلَى مَرْضَاتِهِ.
وَإِذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا، وَقَدْ عَلِمْنَا لَا مَحَالَةَ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ سَائِرَ الْمَفْرُوضَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ مَبْنِيَّةٍ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ، ثَبَتَ أَنَّ التَّعْظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإِكْمَالِ عِدَّةِ رَمَضَانَ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ إظْهَارُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ، ثُمَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرًا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا تَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ التَّكْبِيرُ الْمَفْعُولُ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدُ بِهِ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَأَيَّهَا فَعَلَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَفَعْلَ مُقْتَضَاهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ النَّفَلَ، أَلَا تَرَى أَنَّا نُكَبِّرُ اللَّهَ أَوْ نُعَظِّمُهُ بِمَا نُظْهِرُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ نَفْلًا؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إظْهَارَ التَّكْبِيرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَمَنْ كَبَّرَ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ اسْتِبْرَاءً، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَتَى فَعْلَ أَدْنَى مَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا فَقَدْ وَافَقَ مُقْتَضَى الْآيَةِ، إلَّا أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَكْبِيرِهِمْ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ الْآيَةِ، فَالْأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ لَا حَتْمًا وَاجِبًا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ هُوَ أَوْلَى بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيّ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، وَعَنْ السَّلَفِ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ؛ إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي تَحْدِيدَ تَكْبِيرٍ عِنْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَالْفِطْرَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَضْحَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَسْنُونًا فِي الْأَضْحَى فَالْفِطْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ لَا تَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيهِمَا وَالْخُطْبَةِ بَعْدَهُمَا وَسَائِرِ سُنَنِهِمَا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ التَّكْبِيرِ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ وَالْيُسْرِ وَلْيُكَبِّرُوهُ وَيَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ إلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَفِعْلَ الشُّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْصِيهِ وَلَا يَشْكُرُهُ.
فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَعْصِيَهُ وَلَا أَنْ يَتْرُكَ فُرُوضَهُ وَأَوَامِرَهُ، بَلْ أَرَادَ مِنْ الْجَمِيعِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَمَعَ مَا دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فَاعِلَ مَا أُرِيدَ مِنْهُ مُطِيعٌ لِلْمُرِيدِ مُتَّبِعٌ لِأَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِلْمَعَاصِي لَكَانَ الْعُصَاةُ مُطِيعِينَ لَهُ، فَدَلَالَةُ الْعُقُولِ مُوَافِقَةٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. اهـ.