فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جُعِلَ الْأَجَلُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَفِقَ وَإِلَّا تَرَكَ حَقَّهُ.
قُلْنَا: كُلُّ حَقٍّ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَتَرْكٌ صِرْفٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكُلُّ حَقٍّ يُتْرَكُ فِي عَقْدٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْغَرَرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: أَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَدَّرَهُ عَلِيٌّ بِرُبُعِ الْكِتَابَةِ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ بِنَجْمٍ مِنْ نُجُومِهَا.
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فَإِنَّهُ يُنَفِّذُهُ فِي تَرِكَتِهِ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُلَمَائِنَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ: إنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ يَقُولُ: إنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ تَرْكِيبًا حَسَنًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ وَالْإِيتَاءُ يَجِبُ؛ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَالْفَرْعَ وَاجِبًا؛ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَةً.
فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ، فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ.
قُلْنَا: عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ؛ فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكَانَ الْمَالُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ مَجْهُولًا، وَالْعَقْدُ بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ، وَقَدْ عَضَّدَهُ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.
وَمَالُ اللَّهِ هُوَ الزَّكَاةُ، وَالْفَيْءُ، وَلَيْسَ بِمَالٍ أَوْجَبَ حَقًّا فِي عَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ وَأَمْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إنَّهُ مَالُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَقَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَجَازَ حَقِيقَةً، وَيَعْدِلُونَ بِاللَّفْظِ عَنْ طَرِيقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ؟ قُلْنَا: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحُجَّةَ إلَّا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ هُوَ جَدُّ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ تَعْرِضُ؟ فَقَالَ عَبْدُهُ: أَعْرِضُ مِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ.
قَالَ: فَمَا اسْتَزَادَنِي، وَكَاتَبَنِي عَلَيْهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَ لِي مِنْ مَالِهِ طَائِفَةً، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: إنِّي كَاتَبْت غُلَامِي، فَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِي، فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَخُذْهَا، فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا.
قَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ لِي فِيهَا؛ عَتَقْت مِنْهَا، وَأَصَبْت خَيْرًا كَثِيرًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ.
وَكَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ رُبُعَهَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّدْبَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ دَلِيلٌ لاسيما وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَاتَبَ غَيْرَهُ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي أَيِّ وَقْتٍ يُؤْتَى؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ وَسَأَلْته عَمَّا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا: مَتَى يُتْرَكُ؛ وَكَيْفَ يُكْتَبُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يُكْتَبُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَلَى كَذَا، وَقَدْ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ أَجْرِ كِتَابَتِهِ كَذَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
الرَّابِعُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِهَا؛ قَالَهُ عُمَرُ وَفَعَلَهُ.
وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِهَا، لِيَسْتَفِيدَ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَحُصُولَ الْعِتْقِ لَهُ، وَالْإِسْقَاطُ أَبَدًا إنَّمَا يَكُونُ فِي أُخْرَيَاتِ الدُّيُونِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ فِي عَامَيْنِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ فَأَكْرَههَا عَلَى الْبِغَاءِ، فَقَالَتْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا خَيْرًا لَقَدْ اسْتَكْثَرْت مِنْهُ وَرُوِيَ لَقَدْ اسْتَنْكَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَقَدْ بَانَ لِي أَنْ أَدَعَهُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ عِنْدَهُ، وَكَانَ الْقُرَشِيُّ يُرِيدُ الْجَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْ الْقُرَشِيِّ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَقَعَ فِي مُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا إنْ أَرَادَتْ الْمُكْرَهَةُ الْإِحْصَانَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ بِحَالٍ، فَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرُوهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ الْحَقَائِقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ إرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الزِّنَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إكْرَاهٌ، فَحَصِّلُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فِيمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَنْهَى اللَّهُ إلَّا عَنْ مُتَصَوَّرٍ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الزَّانِيَ يَنْتَشِرُ وَيَشْتَهِي إذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ طَبْعًا.
قُلْنَا: الْإِلْجَاءُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ} فَإِنَّ مِنْ الْبَغَايَا مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْبَغْيِ، وَكَذَلِكَ كَانَ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} قَالَ: كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلَائِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصِبْنَ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ.
وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ جَارِيَةً، وَكَانَتْ تُبَاغِي، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ أَلَّا تَفْعَلَهُ، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُكْرَهِ لَا لِلَّذِي أَكْرَهَ عَلَيْهِ وَأَلْجَأَ الْمُكْرَهَ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهٍ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَالْمَغْفِرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكْرَهِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمَيْتَةِ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ}.
وهو جمع أيّم، وفي الأيم قولان:
أحدهما: أنها المتوفى عنها زوجها، قاله محمد بن الحسن.
الثاني: أنها التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا وهو قول الجمهور. يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر:
فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي ** وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ

وروى القاسم قال: أمر بقتل الأيم يعني الحية.
وفي هذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج.
الثاني: أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة.
واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكًا بظاهر الأمر، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج.
ثم قال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم.
الثاني: وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له، وإن أراد تزويجها كان له خيرًا وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها.
وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين:
{إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح.
الثاني: إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين، وإما باجتماع الرزقين، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية» {إِن يَكُونَواْ فُقَراءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
{وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ} فيه وجهان:
أحدهما: واسع العطاء عليم بالمصلحة.
الثاني: واسع الرزق عليهم بالخلق.
قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليعف، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة، قال رؤبة:
يعف عن أسرارها بعد الفسق.
يعني عن الزنى بها.
{حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه.
الثاني: يغني بمال حلال يتزوجون به.
{وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْرًا} أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها.
وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيرًا مذهبان:
أحدهما: وهو قول عطاء، وداود، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى.
الثاني: وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيرًا بين المقام والفسخ.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} خمسة تأويلات: أحدها: أن الخير، القدرة على الاحتراف والكسب، قاله ابن عمر وابن عباس.
الثاني: أن الخير: المال، قاله عطاء ومجاهد.
الثالث: أنه الدين والأمانة، قاله الحسن.
الرابع: أنه الوفاء والصدق، قاله قتادة وطاووس.
الخامس: أنه الكسب والأمانة، قاله الشافعي.
{وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد. ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنيًا، قاله الحسن، وإبراهيم وابن زيد.