فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وآتُوهم من مال الله الذي آتاكم} فيه قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا أن يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون.
والثاني: أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئًا.
قال أحمد والشافعي: الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة.
وقال الشافعي: ليس بمقدَّر.
وقال أبو حنيفة ومالك: لايجب الإِيتاء.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلامًا له يقال له: أبو أُمية، فجاءه بنجمه حين حلَّ؛ فقال: اذهب يا أبا أُمية فاستعن به في مكاتَبتك، قال: ياأمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أُمية: إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام.
قوله تعالى: {ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء} روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أٌبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئًا، فنزلت هذه الآية.
قال المفسرون: وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة: إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيرًا فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرًّا فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية.
وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى.
فأما الفتيات، فهن الإِماء.
والبِغاء: الزنا.
والتحصن: التعفف.
واختلفوا في معنى {إِن أَرَدْنَ تحصُّنًا} على أربعة أقوال:
أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطًا فيه.
والثاني: إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع.
والثالث: أن {إِنْ} بمعنى إِذ، ومثله: {وذروا ما بقي من الربا إِن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278] {وأنتم الأعلون إِن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
والرابع: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: {وأنكحوا الأيامى} إِلى قوله: {وإِمائكم} {إِن أردن تحصنًا} ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} وهو كسبهن وبيع أولادهن {ومن يُكْرِهْهُنَّ فَان الله من بعد إِكراههن غفور} للمُكْرَهات {رحيم} وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: {من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم}.
قوله تعالى: {آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ} قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: {مبيِّنات} بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة [النور: 34، 46]، وآخر سورة [الطلاق: 11].
قوله تعالى: {ومَثَلًا من الذين خَلَوا} أي: شَبَهًا من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذِّبين قبلهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}.
فيه سبع مسائل:
الأولى: هذه المخاطبة تدخل في باب السّتر والصلاح؛ أي زوّجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفّف؛ والخطاب للأولياء.
وقيل للأزواج.
والصحيح الأوّل؛ إذ لو أراد الأزواجَ لقال وانكحوا بغير همز، وكانت الألف للوصل.
وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تُنكح نفسها بغير وَلِيّ؛ وهو قول أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: إذا زوّجت الثيّبُ أو البكر نفسها بغير وَلِيّ كُفًْا لها جاز.
وقد مضى هذا في البقرة مستوفًى.
الثانية: اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال؛ فقال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العَنت، ومن عدم صبره، ومن قوّته على الصبر وزوال خشية العَنَت عنه.
وإذا خاف الهلاك في الدِّين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حَتْمٌ.
وإن لم يخش شيئًا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعيّ: النكاح مباح.
وقال مالك وأبو حنيفة؛ هو مستحب.
تعلّق الشافعِيّ بأنه قضاء لذةٍ فكان مباحًا كالأكل والشرب.
وتعلّق علماؤنا بالحديث الصحيح: «من رَغِب عن سُنّتِي فليس منّي».
الثالثة: قوله تعالى: {الأيامى مِنْكُمْ} أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء؛ واحدهم أَيِّم.
قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم.
واتفق أهل اللغة على أن الأيّم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيِّبًا؛ حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما.
تقول العرب: تأيّمت المرأة إذا أقامت لا تتزوّج.
وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنا وامرأةٌ سَفْعاء الخدّين تأيّمت على ولدها الصّغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة» وقال الشاعر:
فإن تَنْكِحي أنْكِح وإن تَتَأَيّمِي ** وإن كنتُ أَفْتَى منكمُ أتأيّمُ

ويقال: أَيِّم بيّن الأَيْمة وقد آمَتْ هي، وإمْت أنا.
قال الشاعر:
لقد إمْتُ حتى لامَنِي كلّ صاحب ** رجاءً بسَلْمَى أن تَئِيمَ كما إمْتُ

قال أبو عبيد: يقال رجل أيِّم وامرأة أيِّم؛ وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار في الرجال.
وقال أمَيَّة بن أبي الصَّلْت:
لله دَرُّ بَنِي عَل ** ـي أيَّمٍ منهم وناكحُ

وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} [النور: 3]، وقد بيّناه في أوّل السورة والحمد لله.
الرابعة: المقصود من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الحرائرُ والأحرار؛ ثم بيّن حكم المماليك فقال: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}.
وقرأ الحسن {والصالحين من عبيدكم} وعَبيد اسم للجمع.
قال الفراء: ويجوز {وإماءَكم} بالنصب، يردّه على {الصالحين} يعني الذكور والإناث؛ والصلاح الإيمان.
وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب؛ كما قال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].
ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يُعلم أن في العبد خيرًا، ولكن الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب، وإنما يُستحب كتابة من فيه خير.
الخامسة: أكثر العلماء على أن للسيّد أن يُكره عبده وأمَته على النكاح؛ وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا كان ضررًا.
وروي نحوه عن الشافعيّ، ثم قال: ليس للسيّد أن يكره العبد على النكاح.
وقال النَّخَعِيّ: كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب.
تمسّك أصحاب الشافعيّ فقالوا: العبد مكلف فلا يجبر على النكاح؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدميّة، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظًّا للسيد من مِلْك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأَمَة فإنه له حق المملوكية في بُضْعها ليستوفيه؛ فأما بُضْع العبد فلا حقّ له فيه، ولأجل ذلك لا تباح السيّدة لعبدها.
هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضًا الطلاق، فإنه يملكه العبد بتملّك عقده.
ولعلمائنا النكتة العظمة في أن مالكيّة العبد استغرقتها مالكية السيد؛ ولذلك لا يتزوّج إلا بإذنه بإجماع.
والنكاح وبابُه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد.
السادسة: قوله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} رجع الكلام إلى الأحرار؛ أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة؛ {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وهذا وَعْدٌ بالغنى للمتزوّجين طلب رضا الله واعتصامًا من معاصيه.
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح؛ وتلا هذه الآية.
وقال عمر رضي الله عنه: عَجَبِي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا.
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلّهم حقٌّ على الله عونُه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتَب يريد الأداء» أخرجه ابن ماجه في سننه.
فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني؛ قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدقَ الوعد.
وقد قيل: يغنيه؛ أي يغني النفس.
وفي الصحيح: «ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض إنما الغنى غِنَى النفس» وقد قيل: ليس وعد لا يقع فيه خُلْف؛ بل المعنى أن المال غادٍ ورائح، فارجوا الغنى.
وقيل: المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء؛ كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]، وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 26].
وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يُغْنِهِمُ الله بالحلال ليتعفّفُوا عن الزنى.
السابعة: هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال؛ فإن رزقه على الله.
وقد زوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تَهَب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه؛ وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرًا، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه؛ قاله علماؤنا.
وقال النقاش: هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرّق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرًا لا يقدر على النفقة؛ لأن الله تعالى قال: {يُغْنِهِمُ الله} ولم يقل يفرّق.
وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوّج فقيرًا.
فأمّا من تزوّج موسِرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرّق بينهما؛ قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130].
ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها.
قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين} الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زِمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه؛ كالمحجور عليه قولًا واحدًا والأَمةِ والعبد؛ على أحد قولي العلماء.
الثانية: واستعفف وزنه استفعل؛ ومعناه طلب أن يكون عفيفًا؛ فأمر الله تعالى بهذه الآية كلَّ من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأيّ وجهٍ تعذّرَ أن يستعفف.
ثم لما كان أغلب الموانع عن النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله؛ فيرزقه ما يتزوّج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء.