فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مجاهد: يترك له من كل نجم.
قال ابن العربي: والأقوى عندي أن يكون في آخرها؛ لأن الإسقاط أبدًا إنما يكون في أخريات الديون.
الرابعة عشرة: المكاتب إذا بيع للعتق رضًا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئًا، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدّي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها، أو يضع عنه من آخره نَجمًا أو ما شاء؛ على ما أمر الله به في كتابه، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالي بَرِيرة بإعطائها مما قبضوا شيئًا، وإن كانوا قد باعوها للعتق.
الخامسة عشرة: اختلفوا في صفة عقد الكتابة؛ فقال ابن خُوَيْزِمَنْداد: صفتها أن يقول السيد لعبده كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا نجمًا، إذا أدّيته فأنت حر.
أو يقول له أدّ إليّ ألفًا في عشرة أنجم وأنت حر.
فيقول العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ؛ فمتى أداها عَتق.
وكذلك لو قال العبد كاتبني، فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك.
قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له؛ فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه.
ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية.
السادسة عشرة: في ميراث المكاتب؛ واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالًا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته؛ لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالًا، ولا يعتقون إلا بعتقه، ولو أدّى عنهم ما رجع بذلك عليهم؛ لأنهم يعتقون عليه؛ فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله.
والقول الثاني: أنه يؤدّى عنه من ماله جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حرًا، ويرثه جميع ولده، وسواء في ذلك من كان حرًّا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته؛ لأنهم قد استووا في الحرية كلّهم حين تأدّت عنهم كتابتهم.
روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حَيّ، وإليه ذهب إسحاق.
والقول الثالث: أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدّي جميع كتابته فقد مات عبدًا، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته؛ لأن لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدًا وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته؛ لأنه محال أن يَعتِق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعَوْا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدّوا عَتَقوا لأنهم كانوا فيها تَبَعًا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رَقُّوا.
هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة.
قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أُبَيّ، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى مُعاذة والأخرى مُسَيْكة، وكان يُكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد؛ فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين.
ومعاذة هذه أمُّ خولة التي جادلت النبيّ صلى الله عليه وسلم في زوجها.
وفي صحيح مسلم عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مُسَيكة وأخرى يقال لها أمَيمة فكان يُكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إلى قوله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} راجع إلى الفَتَيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصُّن فحينئذٍ يمكن ويتصوّر أن يكون السيد مكرهًا، ويمكن أن ينهى عن الإكراه.
وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنى.
فهذا أمر في سادة وفتيات حالُهم هذه.
وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصوّر الإكراه؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصوّر إكراه، فحصِّلُوه.
وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين؛ فقال بعضهم قوله: {إن أردن تحصُنًا} راجع إلى الأيامى.
قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنًا.
وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إن أردن} مُلْغًى، ونحو ذلك مما يَضْعُف.
والله الموفق.
قوله تعالى: {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي الشيء الذي تَكْسِبه الأَمَة بفرجها، والولد يُسترقّ فيباع.
وقيل: كان الزاني يفتدِي ولده من المزنيّ بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها.
قوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُنَّ} أي يقهرهن.
{فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} لهن {رَّحِيمٌ} بهن.
وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير {لهن غفور} بزيادة لهن.
وقد مضى الكلام في الإكراه في النحل والحمد لله.
ثم عدّد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}.
لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالبًا لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه، فلا يلتفت إلى غيره.
والظاهر أن الأمر في قوله: {وانكحوا} للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود {الأيامى} ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.
وقال الزمخشري: {الأيامى} واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى.
وفي التحرير قال أبو عمر: وأيامى مقلوب أيائم، وغيره من النحويين ذكر أن أيمًا ويتيمًا جمعًا على أيامي ويتامى شذوذًا يحفظ ووزنه فعالى، وهو ظاهر كلام سيبويه.
قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات.
وقالوا: وج ووجيًا كما قالوا: زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا: يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى.
وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى.
وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا زوج لها، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا، ثم قيل في البكر مجازًا لأنها لا زوج لها انتهى.
{منكم} خطاب للمؤمنين، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء، واندرج المؤنث في المذكر في قوله: {والصالحين} وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن {الصالحين} من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك.
وقيل: معنى {والصالحين} أي للنكاح والقيام بحقوقه.
وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.
و{إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} {والله واسع} أي ذو غنى وسعة، يبسط الله لمن يشاء {عليم} بحاجات الناس، فيجري عليهم ما قدر من الرزق.
{وليستعفف} أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام {الذين لا يجدون نكاحًا}.
قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، ويؤيده قوله: {حتى يغنيهم الله من فضله} فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية.
والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل {أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}.
ومعنى {لا يجدون نكاحًا} أي لا يتمكنون من الوصول إليه، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و{حتى يغنيهم} ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفًا في استعفافهم وربطًا على قلوبهم، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولًا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى.
وهو من كلام الزمخشري وهو حسن، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارًا فيتصرفون في أنفسهم.
{والذين يبتغون الكتاب} أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة.
{مما ملكت} يعم المماليك الذكور والإناث.
و{الذين} يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط، ويحتمل أن يكون منصوبًا كما تقول: زيدًا فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيدًا فاضرب، وزيدًا اضرب، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيدًا فالفاء في جواب أمر محذوف، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا.
قال الأزهري: وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله: {فكاتبوهم} وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه، أو لأضربنك بالدرة، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا، ويعين ما كاتبه عليه، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالًا ومؤجلًا ومنجمًا وغير منجم، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم.
وقال أكثر العلماء: يجوز على نجم واحد.
وقال ابن خويز منداد: إذا كاتب على مال معجل كان عتقًا على مال ولم تكن كتابة، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة.
والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضًا أو الدين قاله الحسن، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير.
وقال الشافعي: الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط، فلو لم يعلم فيه خيرًا لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله: {فكاتبوهم} والظاهر في {وآتوهم} أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها، وقتادة عشرها.