فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ومثلًا من الذين خَلَوا مِن قبلكم} أي: وأنزلنا مثلًا من أمثال مَنْ قَبْلَكُم، من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء، فتنتظم قصة عائشة- رضي الله عنها- المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة، انتظامًا واضحًا. وتخصيص الآيات البينات بالسوابق، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات.
{و} أنزلنا {موعظةً للمتقين} يتعظون بها، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب، والمراد: ما وعظ به من الآيات والمثل، مثل قوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2]، و{لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12] إلخ، {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} [النور: 17].
وتخصيص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتسبةن لأنوارها، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي. وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ، والموعظة بما وعظ به من قوله: {ولا تأخذكم} إلى آخر ما تقدم. وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة: جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها، أو رضي فعلها، فهو شريك الفاعل في الوزر، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب، أو أعظم. وفي الأثر: «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه».
قال القشيري: حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. اهـ. ومن هذا القبيل: تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهًا، أو تَوَصُّلًا إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصدًا فاسدًا، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفًا لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
ثم إن أنوار الشريعة، وهى أحكام المعاملة الظاهرة، تهدى إلى أنوار الطريقة، وهى أحكام المعاملة الباطنة، وأنوار الطريقة تهدى إلى أنوار الحقيقة، وأنوار الحقيقة تصيّر الكون كلّه نورا، كما قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}.
لما أمر سبحانه بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحلّ للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة، وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غضّ البصر عن المحرّمات، وحفظ الفرج عما لا يحل، فقال: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الأيم: التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، والجمع أيامى، والأصل أيايم، والأيم بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة.
قال أبو عمرو، والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي: المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا.
قال أبو عبيد: يقال رجل أيم، وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية ابن أبي الصلت:
للّه درّ بني علي ** أيم منهم وناكح

ومنه أيضًا قول الآخر:
لقد إمت حتى لا مني كلّ صاحب ** رجاء سليمى أن تأيم كما إمت

والخطاب في الآية للأولياء، وقيل: للأزواج، والأوّل أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة.
واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأوّل الشافعي، وغيره، وإلى الثاني مالك، وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه، وإلاّ فلا.
والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية، وبالجملة، فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: «ومن رغب عن سنتي فليس مني» ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريبًا، والمراد بالأيامى هنا الأحرار، والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} قرأ الجمهور {عبادكم} وقرأ الحسن {عبيدكم}.
قال الفراء: ويجوز {وإماءكم} بالنصب بردّه على الصالحين، والصلاح هو الإيمان.
وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه دليل على أن المملوك لا يزوّج نفسه، وإنما يزوّجه مالكه.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح.
وقال مالك: لا يجوز.
ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار، فقال: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك.
قال الزجاج: حثّ الله على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلًا لكل فقير إذا تزوّج، فإن ذلك مقيد بالمشيئة.
وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوّجوا.
وقيل: المعنى إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا.
والوجه الأوّل أولى، ويدلّ عليه قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} [التوبة: 28].
فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة: {والله واسع عَلِيمٌ} مؤكدة لما قبلها، ومقرّرة لها، والمراد: أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنّى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء، ويفقر من يشاء.
ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادًا لهم إلى ما هو الأولى، فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} استعفّ: طلب أن يكون عفيفًا أي: ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحًا أي: سبب نكاح، وهو المال.
وقيل: النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي: {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: يرزقهم رزقًا يستغنون به، ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى.
وهي: أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعدًا حتمًا لا محالة في حصوله؛ لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذٍ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغنى عند تزوّجه لا محالة، فيكون في تزوّجه مع فقره تحصيل للغنى، إلاّ أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحًا إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها، وأعظمها المال.
ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} الموصول في محل رفع على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده أي: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتابًا ومكاتبة، كما يقال: قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة.
وقيل: الكتاب ها هنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه، وعلى أنفسهم بذلك كتابًا، فيكون المعنى: الذين يطلبون كتاب المكاتبة.
ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجمًا، فإذا أدّاه فهو حرّ، وظاهر قوله: {فكاتبوهم} أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه، وإن لم يكن له مال، وقيل: هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل.
وذهب إلى الأوّل ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك والشافعي والفراء والزجاج.
قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال.
وقال الزجاج: لما قال {فيهم} كان الأظهر الاكتساب، والوفاء، وأداء الأمانة، وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة.
وروي مثل هذا عن الحسن.
وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة.
قال الطحاوي: وقول من قال: إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ قال: والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق.
قال أبو عمر بن عبد البرّ: من لم يقل: إن الخير هنا المال، أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالًا، وإنما يقال: علمت فيه الخير، والصلاح، والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال.
هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية.
وإذا تقرّر لك هذا، فاعلم: أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب.
عكرمة، وعطاء، ومسروق، وعمرو بن دينار، والضحاك، وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك، وعلم فيه خيرًا.
وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده، أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك، ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية، وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأوّلون، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس واختاره ابن جرير.
ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُم} ففي هذه الآية: الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئًا من المال، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل: الثلث، وقيل: الربع، وقيل: العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة.
وقال الحسن، والنخعي، وبريدة: إن الخطاب بقوله: {وآتوهم} لجميع الناس.
وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه: {وَفِي الرقاب} [التوبة: 60]، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة.
ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء} والمراد بالفتيات هنا الإماء، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر.
والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء إذا زنت، وهذا مختصّ بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا: إنه بغيّ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لأن الإكراه لا يتصور إلاّ عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها: مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا: التعفف، والتزوج.
وقيل: إن هذا القيد راجع إلى الأيامى.
قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: وأنكحوا الأيامى، والصالحين من عبادكم، وإمائكم إن أردن تحصنًا.
وقيل: هذا الشرط ملغى.
وقيل: إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهنّ، وهنّ يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهنّ التعفف.
وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب: أن الإكراه لا يكون إلاّ عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل: من أنه لا يتصور الإكراه إلاّ عند إرادة التحصن، إلاّ أن يقال: إن المراد بالتحصن هنا مجرّد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن، وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن التعفف، والتزوّج، وتابعه على ذلك غيره.