فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} وهو: ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضًا خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلًا لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدلّ هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغيًا بإكراهها عرض الحياة الدنيا.
وقيل: إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهنّ، وهذا يلاقي المعنى الأوّل، ولا يخالفه.
{وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا مقرّر لما قبله، ومؤكد له، والمعنى: أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدلّ عليه قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير: «فإن الله غفور رحيم لهنّ».
قيل: وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة.
وأجيب: بأنها، وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصرًا عن حدّ الإلجاء المزيل للاختيار.
وقيل: إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم لهم، إما مطلقًا، أو بشرط التوبة.
ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى: أنه {آيَاتٍ مُّبَيِّنَات} أي: واضحات في أنفسهن، أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولًا أوّليًا.
والصفة الثانية: كونه مَثَلًا من الذين خلوا من قبل هؤلاء أي: مثلًا كائنًا من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما اتهما به، ثم تبين بطلانه، وبراءتهما سلام الله عليهما.
والصفة الثالثة: كونه مَّوْعِظَةٌ ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من النواهي.
وأما غير المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} الآية، قال: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى، فقال {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي بكر الصدّيق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وعبد بن حميد، عن قتادة قال: ذكر لنا: أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عنه نحوه من طريق أخرى.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج البزار، والدارقطني في العلل، والحاكم، وابن مردويه، والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنكحوا النساء، فإنهنّ يأتينكم بالمال» وأخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود في مراسيله، عن عروة مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عائشة، وهو مرسل.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في السنن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} قال: ليتزوّج من لا يجد فإن الله سيغنيه، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة، عن عبد الله بن صبيح، عن أبيه قال: كنت مملوكًا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة، فأبى، فنزلت: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب، فأقبل عليّ بالدرّة، وقال: كاتبه، وتلا: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فكاتبته.
قال ابن كثير: إن إسناده صحيح.
وأخرج أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلًا على الناس» وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: المال.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ مثله.
وأخرج البيهقي، عن ابن عباس في الآية قال: أمانة ووفاء.
وأخرج عنه أيضًا قال: إن علمت مكاتبك يقضيك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: يطعمني من أوساخ الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله} الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب.
وقال عليّ بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه.
وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والروياني في مسنده، والضياء المقدسي في المختارة، عن بريدة في الآية قال: حثّ الناس عليه أن يعطوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، ومسلم، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي من طريق أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئًا، وكانت كارهة، فأنزل الله: «ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم» هكذا كان يقرؤها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أبيّ: يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم} الآية.
وأخرج البزار، وابن مردويه، عن أنس نحو حديث جابر الأوّل.
وأخرج ابن مردويه، عن عليّ بن أبي طالب في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهنّ، فنزلت الآية.
وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغيّ، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} أي: زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم، والخطاب للأولياء والسادات، والأيامى: جمع أيّم. من لا زوجة له أو لا زوج لها. يكون للرجل والمرأة يقال: آم وآمَتْ وتَأَيَّمَا، إذا لم يتزوجا، بكرين كانا أو ثيبين.
قال أبو السعود: واعتبار الصلاح في الأرقاء، لأن من لا صلاح له منهم، بمعزل من أن يكون خليقًا بأن يعتني مولاه بشأنه، ويشفق عليه، ويتكلف في نظم مصالحه بما لابد منه شرعًا وعادةً، من بذل المال والمنافع. بل حقه ألا يستبقيه عنده. وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، فلأن الغالب فيهم الصلاح. على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم. فإذا عزموا النكاح، فلابد من مساعدة الأولياء لهم؛ إذ ليس عليهم في ذلك غرامة، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم. عاجلة أو آجلة: وقيل: المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه. وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إزاحة لما عسى يكون وازعًا من النكاح من فقر أحد الجانبين. أي: لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة. فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال. فإنه غاد ورائحٌ. يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب. أو وعد من سبحانه بالإغناء. لكنه مشروط بالمشيئة. كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: غني ذو سعة، لا يرزؤه إغناء الخلائق، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة. انتهى كلام أبي مسعود.
تنبيهات:
الأول: الأمر في الآية للندب. لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه. وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك.
وفي الإكليل: استدل الشافعيّ بالأمر على اعتبار الوليّ. لأن الخطاب له، وعدم استقلال المرأة بالنكاح. واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط، ونكاح العبدة الحرة. واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته.
الثاني: قدمنا أن قوله تعالى: {يُغْنِهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مشروط بالمشيئة. فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد، وكم من متزوج فقير. والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي، وهو الآية المتقدمة. أو إشارة قوله تعالى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لأن مآله إلى المشيئة. أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال الناصر في الانتصاف: ولقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضًا المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغني بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة. فمن مستغن به، ومن فقير، كما أن حال غير الناكح منقسم؟.
فالجواب، وبالله التوفيق: إن فائدة ربط الغنى بالنكاح، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبّب، جلَّ وعلا. حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتمًا، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزمًا. وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام، لنفاد المال. وقد يقدر الإملاق مع عدمه، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام. والواقع يشهد لذلك بلا مراء. فدل ذلك قطعًا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر، مرتبطات بمسبباتها، ارتباطًا لا ينفك- ليست على ما يزعمونه. وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب. غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة. وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح. لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار. وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه، ولا يؤثر أيضًا الخلوّ عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتّر عليه. وأن العبد إن تعاطى سببًا فلا يكن ناظرًا إليه، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس. فمعنى قوله حينئذ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} الآية، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله. فعبر عن نفي كونه مانعًا، من الغنى، بوجوده معه. ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعًا مع ما يتوهم مانعًا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك. فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فإن ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة. ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت، فلا مانع. فعبّر عن نفي المانع بالانتشار، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع. والله أعلم.