فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزّل من عند الله.
وابتدىء الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {مبيَّنات} بفتح التحتية على صيغة المفعول.
فالمعنى: أن الله بيّنها ووضحها.
وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها.
ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها {وأنزلنا فيها آيات بينات}.
[النور: 1] في أول السورة لأن البينات هي الواضحة، أي الواضحةُ الدلالة والإفادة.
والمَثل: النظير والمشابه.
ويجوز أن يراد به الحال العجيبة.
ومِن في قوله: {من الذين خلوا} ابتدائية، أي مثلًا ينشأ ويتقوم من الذين خلوا.
والمراد نشأة المشابهة.
وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره: من أمثال الذين خلوا من قبلكم.
وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة، قال النابغة:
وقد خفتُ حتى ما تزيد مخافتي ** على وَعِللٍ في ذي المطارة عاقِل

أراد على مخافة وعل.
و{الذين خلوا من قبلكم} هم الأمم الذين سبقوا المسلمين، وأراد: من أمثال صالحي الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثَل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البراء.
والموعظة: كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {فأعرض عنهم وعظهم} في سورة النساء (63) وقوله: {موعظة وتفصيلًا لكل شيء} في سورة الأعراف (145).
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2] وقوله: {لولا إذ سمعتموه} [النور: 12] الآيات، وقوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا} [النور: 17].
والمتقون: الذين يتقون، أي يتجنبون ما نهوا عنه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
والإنكاح هنا معناه: التزويج: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} أي زوجوهم، والأيامى: جمع أيَّم بفتح الهمزة، وتشديد الياء المسكورة، والأيِّم: هو من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء كان قد تزوّج قبل ذلك، أو لم يتزوج قط يقال: رجل أيِّم: وامرأة أيِّم. وقد فسر الشماخ بن ضرار في شعره: الأيِّم الأنثى بأنها التي تتزوج في حالتها الراهنة، وذلك في قوله:
يقرّ بعيني أن أُنبّأ أنّها ** وأن لم أنلها أيِّم لم تزوّج

فقوله: لم تزوج تفسير لقوله: أنها أيِّم. ومن إطلاق الأيِّم على الذكر لا زوج له قول أميّة بن أبي الصلت الثقفي:
لله درٌّ بنِي عَليٍّ منهم وناكح

ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر:
أحب الأيامى إذ بثينة أيِّم ** وأحببت لما أن غنيت الغوانيا

والعرب تقول: آم الرجل يئيم، وآمت المرأة لئيم إذا صار الواحد منهما أيِّما. وكذلك تقول: تأيم إذا كان أيّما.
ومثاله في الأول قول الشاعر:
لقد إمت حتى لامني كل صاحب ** رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت

ومن الثاني:
فإن تَنْكِحي أنْكِح وأن تَتأيَّمي ** وإن كنتُ منكُم أتأيَّمُ

ومن الأفضل قول يزيد بن الحكم الثقفي:
كل امرئ ستئيم منه ** العرس أو منها يئيم

وقول الآخر:
نجوت بقوف نفسك غير أنّي ** إخال بأن سييتَّم أو تئيم

يعني: ييتم ابنك وتئيم امرأتك.
فإذا علمت هذا فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} شامل للذكور والإناث. وقوله في هذه الآية: {مِنْكُمْ} أي من المسلمين، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله: منكم، أن الأيامى من غيركم، أي من غير المسلمين، وهم الكفار ليسوا كذلك.
وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرّحًا به في آيات أخر كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] وقوله في أياماهم الإناث: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله فيهما جميعًا: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقًا وأنّه لا يجوز المسلم للكافرة إلاَّ أنَّ عموم هذه الآيات خصَّصته آية المائدة، فأبانت أن المسلم يجوز له تزّوج المحصنة الكتابية خاصة، وذلك في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فقوله تعالى، عاطفًا على ما يحل للمسلمين: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] صريح في إباحة تزوج المسلم للمحصنة الكتابية، والظاهرة أنها الحرة العفيفة.
فالحاصل: أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور، إلاّ صورة واحدة، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية كما رأيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} يدلّ على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين، والإماء المملوكات، وظاهر هذا الأمر الوجوب لما تقرر في الأصول.
وقد بيناه مرارًا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته، وجب على وليها تزويجها إياه، وأنما يقوله بعض أهل العلم من المالكية. ومن وافقهم من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقًا غير صواب لمخالفته لنص القرآن في هذه الآية الكريمة.
واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: {وَإِمائِكُمْ} بينت آية النساء أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية، فآية النساء المذكورة مخصصة بعموم آية النور هذه بالنسبة إلى الإيماء وآية النساء المذكورة هي قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} [النساء: 25] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} [النساء: 25] فدلت آية النساء هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوّج الأمة بإذن أهلها المالكين لها، ويلزمه دفع مهرها، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخذان، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرًا له فمع أولى بالمنع. وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة، إلا بالشروط المذكورة في القرآن كقول تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]. وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} [النساء: 25] أي الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافًا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقًا، إلا إذا تزوجها على حرة.
والحاصل: أن قوله تعالى في آية النور هذه: وإمائكم خصّصت عمومه آية النساء كما أوضحناه آنفًان والعلماء يقولون: إنّ علّة منع تزويج الحرّ الأمة، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكًا، لأنّ كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فيلزمه ألاّ يتسبب في رق أولاده ما استطاع، ووجهه ظاهر كما ترى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} فيه وعد للمتزوج الفقير من الأحرار، والعبيد بأن الله يغنيه، والله لا يخلف الميعاد، وقد وعد الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء باليسر بعد ذلك العسر، وأنجر له ذلك، وذلكم في قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه رزقه إلى قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] وهذا الوعد منه جل وعلا وعد به من اتقاه في قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}.
[الطلاق: 23] الآية. ووعد بالرَّزق أيضًا من يأمر أهله بالصلاة، ت ويصطبر عليها وذلك في قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} [طه: 132] وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيه نوح في قوله تعالى عنه: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 1012] وعلى لسان نبيه هود في قوله تعالى عنه: {ويا قوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [هود: 52] الآية. وعلى لسان نبّينا صلى الله عليه وسلم وعليهما جميعًا وسلم {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [هود: 3].
ومن الآيات الدالة على أن طاعة الله تعالى سبب للرِّزق قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض} [الأعراف: 96] الآية. ومن بركات السماء المطر، ومن بركات الأرض: النبات مما يأكل الناس والأنعام. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66] الآية. وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] أي في الدنيا كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، وكما يدل عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقد قدمنا أنه جل وعلا بالغنى عند التزويج وعند الطلاق.
أما التزويج ففي قوله هنا: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النور: 32].
وأمّا الطلاق ففي قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] الآية. والظاهر أن المتزوج الذي وعد الله بالغنى، هو الذي يريد يتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر، وحفظ الفرج كما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» الحديث، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة الله، بغض البصر، وحفظ الفرج فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة الله بذلك.
وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالة على وعد الله بالرزق من أطاعة سبحانه جل وعلا ما أكرمه فإنه يجزي بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة، وما قاله أهل الظاهر من أنّ هذه الآية الكريمة تدل على أن العبد يملك ماله، لأن قوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النور: 32] بعد قوله: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] يدل على وصف العبيد بالفقر والغنى، ولا يطلق الغني إلا على من يملك المال الذي به صار غنيًا، ووجه قوي ولا ينافي أن لسيِّده، أن ينتزع منهم ذلك المال الذي هو ملك له. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قيل غفور لهن. وقيل غفور لهم. وقيل غفور لهنّ ولهم.
وأظهرها: أن المعنى غفور لهن لأن المكره لا يؤاخذ بما أُكْرِه عليه، بل يغفره الله له لعذره بالإكراه كما يوضحه قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] الآية، ويؤيّده قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وابن جبير، {فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم}. ذكره عنه القرطبي، وذكره الزمخشري عن ابن عباس رضي الله عنهم جميعًا.