فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} عن الحرام {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} ويوسّع عليهم من رزقه.
{والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أَمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سّماها كان حرًّا، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه الى الرّقّ كما قال صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد مابقي عليه درهم» وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب، فسمّي المكاتب مكاتبًا لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض.
{مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم: هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرًا إذا سأله ذلك بقيمته وأُكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واحتّج من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه، فشكاه الى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة، واحتجّوا أيضًا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب.
وروى عن عمر أنّه قال: هي عزمة من عزمات الله، من سأل الكتابة كوتب.
وقال الآخرون: هو أمر ندب واستحباب، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل، وهو قول الشعبي والحسن البصري، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء.
وأمّا قوله سبحانه {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فاختلفوا فيه، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس: يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه، وإليه ذهب الثوري.
وروى الوالبي عن ابن عباس قال: إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالًا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واستدلّوا بقوله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180].
قال الخليل: لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرًا.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا أبو خالدالأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال: قال له عبد: كاتبني، قال: لك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد: يعني صدقًا ووفاء وأمانة، وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالًا وأمانة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة، فأحبّ أن لايمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يحيى بن حمزة قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: رجل خرج في سبيل الله سبحانه، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ، ورجل كاتب التماس الأداء».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: إن أقاموا الصلاة. وقيل: هو أن يكون المكاتب بالغًا عاقلًا فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث» الحديث.
وقال أبو حنيفة: يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقًا مميّزًا بناءً على أصله إذا كان مراهقًا كيّسًا حرًا فأذن له وليُّهُ في التصّرف نفذ تصرّفه، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته.
واختلف الفقهاء في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهُ: تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنَّ الله سبحانه قال {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحَّ حالًا ومؤجّلًا كالبيع.
وقال الشافعي: لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلةً، وأقلّه نجمان.
{وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} اختلفوا فيه فقال بعضهم: الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئًا، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم: هو ربع المال وهو قول علي، وإليه ذهب الثوري.
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرَّحْمن السلمي أنّه كاتب غلامًا له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليًّا كرم الله وجهه، وقد روى ذلك مرفوعًا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال: حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرَّحْمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} قال: «ربع المكاتبة».
وقال آخرون: ليس فيه حدّ إنّما هو إليه، يحطّ عنه من مال كتابته شيئًا.
روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعًا على عشرة آلاف فتركت لي ألفًا، وروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أُسيد قال: كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفًا وردّ علي مائتين.
وقال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلامًا له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم.
قال سعيد بن جبير: وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئًا من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ، وعلى هذا القول قوله: {وَآتُوهُمْ} أمر استحباب.
وقال بعضهم: معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله: {وَفِي الرقاب} [التوبة: 60] وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب.
وقال بريدة وإبراهيم: هو حثّ لجميع الناس على معونتهم.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أعان مكاتبًا في رقبته أو غازيًا في عسرته أو مجاهدًا في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه».
وأخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال: حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرَّحْمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا: جاءنا غلام لعثمان رضي الله عنه يقال له كيّس فقال: قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني فقلنا له: إنَّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال: أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر، قال: فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء قال: كونوا بالباب ثم قال: ياكيّس تذكر يوم عركت أُذنك، قلت: بلى يا سيّدي، قال: ألم أنهك أن تقول يا سيدي؟ قال: فلم يزل بي حتى ذكرت، قال: قم فخذ بأذني قال: فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأُذنه فعركتها وهو يقول: شُدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال: حسبك ثم قال: واهًا للقضاء في الدنيا، أُخرج فأنت حرّ وما معك لك.
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء} الآية.
نزلت في معاذة ومُسيكة جاريتي عبد الله بن أُبي المنافق، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًّا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أُبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أُجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأُميمة وعمرة وأروى وقتيلة، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أُخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أُبي أسر رجلًا من قريش يوم بدر، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه وكان ابن أُبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله سبحانه {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ} إماءكم {عَلَى البغاء} أي الزنا.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصُّنًا، ونظيره قوله سبحانه {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي إذ، وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] يعني إذ شاء الله والتحصّن: التعفّف.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها {وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّنًا} ثم قال {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ} بعد ورود النهي {فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لهنّ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهنّ والله لهن.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا} خبرًا وعبرة {مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة النور: آية 21]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ}.
الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب:
ضرائر حرمىّ تفاحش غارها

أى: أفرطت غيرتها. والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: خطوات، بفتح الطاء وسكونها. وزكى بالتشديد، والضمير للّه تعالى، ولولا أنّ اللّه تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك، ولكن اللّه يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو {سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بضمائرهم وإخلاصهم.

.[سورة النور: آية 22]:

{وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}.
وهو من ائتلى إذا حلف: افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهدا، إذا لم تدخر منه شيئا. ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتأل. والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبى بكر الصدّيق رضي اللّه عنهما، وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط:
آلى أن لا ينفق عليه، وكفى به داعيا إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسىء. ويروى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأها على أبى بكر، فقال: بلى أحب أن يغفر اللّه لي، ورجع إلى مسطح نفقته وقال: واللّه لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: أن تؤتوا، بالتاء على الالتفات. ويعضده قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}.