فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

{يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات} أي: طرق {الشيطان} بتزيينه أي: لا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ولا في غيرها {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه} أي: المتبع {يأمر بالفحشاء} أي: بالقبائح من الأفعال {والمنكر} أي: ما أنكره الشرع وهو كل ما يكرهه الله تعالى، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون {ولولا فضل الله} أي: الذي لا إله غيره {عليكم ورحمته} أي: بكم بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وتشريع الحدود المكفرة لها {ما زكى} أي: ما طهر من ذنبها {منكم من أحد أبدًا} آخر الدهر، والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا: أخبر الله أنه لولا فضل الله ورحمته ما صلح منكم من أحد، وقال ابن عباس: الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل بالتوبة منه {ولكن الله} أي: العليم بأحوال خلقه {يزكي} أي: يطهر {من يشاء} من الذنوب بقبول التوبة منها {والله سميع} أي: لأقوالهم {عليم} أي: بما في قلوبهم.
{ولا يأتل} أي: يحلف افتعال من الآلية وهو القسم {أولو الفضل} أي: أصحاب الغنى {منكم والسعة أن} أي: أن لا {يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} عنهم في ذلك {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} أي: على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكان يتيمًا في حجره، وكان ينفق عليه فلما فرط منه ما فرط قال لهم أبو بكر: قوموا لستم مني ولست منكم وكفى بذلك داعيًا في المنع، فإن الإنسان إذا أحسن إلى قريبه وكافأه بالإساءة كان أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من أجنبي؛ قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وضع الحسام المهند

فقال له مسطح: نشدتك الله والإسلام والقرابة لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا أول الأمر من ذنب فقال: ألم تتكلم؟ فقال: قد كان بعض ذلك عجبًا من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرًا ولا فرجًا، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على من تكلم بشيء من الإفك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} {والله غفور رحيم} أي: مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه قال: بلى يا رب إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، وجعل له مثلي ما كان له، وقال: والله لا أنزعها أبدًا، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أعظم من مقاتلة الكفار؛ لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكفار ومجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة الكفار، ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
{إن الذين يرمون المحصنات} أي: العفائف {الغافلات} أي: عن الفواحش وهنَّ السليمات الصدور النقيات القلوب بأن لا يقع في قلوبهن فعلها اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات؛ قال في ذلك القائل متغزلًا:
ولقد لهوت بطفلة ميالة ** بلهاء تطلعني على أسرارها

وكذلك البله من الرجال في قوله صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البله»، وقيل: البله هم الراضون بنعيم الجنة والفطناء لم يرضوا إلا بالنظر إلى وجهه الكريم {المؤمنات} بالله ورسوله {لعنوا في الدنيا والآخرة} أي: عذبوا في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بالنار {ولهم عذاب عظيم} لعظم ذنوبهم؛ قال مقاتل: هذا خاص في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وروي أنه قيل لسعيد بن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة، فقال: ذلك لعائشة رضي الله عنها خاصة. قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم ترَ أنَّ الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه على طرق مختلفة أو أساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه ولو لم تنزل إلا هذه الثلاث آيات لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} أي: من قول وفعل، وهو يوم القيامة بما أفكوا وبهتوا فإنه تعالى يوفيهم جزاءهم الحق كما قال تعالى: {يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق} أي: جزاءهم الواجب الذين هم أهله {ويعلمون} عند ذلك {أن الله هو الحق المبين} حيث حقق لهم جزاء الذي كانوا يشكون فيه فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين وعبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة وما ذاك إلا لأمر عظيم، وعن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنبًا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة برّأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد فقال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} يوسف.
الآية، وبرّأ موسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها عليه الصلاة والسلام حين نادى من تحتها {إني عبد الله} [مريم: 30] الآية، وبرّأ عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كيف بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على أنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك وليتأمل كيف غضب الله تعالى له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه، وقال قوم: ليس لمن قذف عائشة وبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة؛ لأن الله تعالى لم يذكر في قذفهن توبة، وما ذكر من أول السورة فذاك في قذف غيرهن.
فإن قيل: إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل المحصنات؟
أجيب: بأنها لما كانت أم المؤمنين جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ولذا قيل: إن هذا حكم كل قاذف ما لم يتب.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {هو الحق المبين}؟
أجيب: بأن معناه ذو الحق المبين أي: العادل الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه والمحق الذي لا يوصف بباطل ومن هذه صفته كان له أن يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه، وقرأ: يشهد؛ حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ويوم ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم، وقرأ أبو عمرو: يوفيهم الله، بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا كله في الوصل، وأما الوقف فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم.
{الخبيثات} أي: من النساء والكلمات {للخبيثين} من الناس {والخبيثون} أي: من الناس {للخبيثات} أي: مما ذكر {والطيبات} أي: مما ذكر {للطيبين} أي: من الناس {والطيبون} أي: منهم {للطيبات} أي: مما ذكر فاللائق بالخبيث مثله وبالطيب مثله {أولئك} أي: الطيبون والطيبات من النساء، ومنهم صفوان وعائشة {مبرؤون مما يقولون} أي: الخبيثون والخبيثات من النساء، وقيل: عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى: {فإن كان له أخوة} أي: إخوان {لهم} أي: الطيبين والطيبات من النساء على الأول، ولصفوان وعائشة على الثاني {مغفرة} أي: عفو عن الذنوب {ورزق كريم} هو الجنة، وروي أنَّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرقة من حرير وقال للنبي صلى الله عليه وسلم هذه زوجتك، وروي أنه أتى بصورتها في راحته، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، ومنها أنه قبض صلى الله عليه وسلم ورأسه الشريف في حجرها، ومنها أنه دفن في بيتها، ومنها أنه كان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحاف، ومنها أن براءتها نزلت من السماء، ومنها أنها ابنة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه، وخلقت طيبة، ووعدت بمغفرة ورزق كريم، وكان مسروق رحمه الله تعالى إذا روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرّأة من السماء.
الحكم السادس: ما ذكره بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} أي: التي تسكنونها، فإن المؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذن، وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها، وفي قوله تعالى: {حتى تستأنسوا} وجهان:
أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له فقد استأنس، والمعنى حتى يؤذن لكم كقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الأحزاب، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن، والثاني: أن يكون من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا، والمعنى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحدًا، واستأنست فلم أرَ أحدًا أي: تعرفت واستعلمت، وقال الخليل بن أحمد: الاستئناس: الاستبصار، من قولهم: آنست نارًا؛ أي: أبصرت، وقيل: هو أن يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح يؤذن أهل البيت، وعن أبي أيوب الأنصاري قال: يا رسول الله: ما الاستئناس؟ قال: «أن يتكلم الرجل» {وتسلموا على أهلها} كأن يقول الواحد: السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له دخل، وإلا رجع قال قتادة: المرة الأولى للتسميع، والثانية: ليتهيأ، والثالثة: إن شاء أذن، وإن شاء رد، وهذا من محاسن الآداب، فإن أول مرة ربما منعهم بعض الأشتغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك مانع يقتضي المنع، فإن لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع، ولهذا كان الأولى في الاستئذان ثلاثًا أن لا تكون متصلة، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.
ولابد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبيًا أو قريبًا غير محرم سواء كان الباب مغلقًا أم لا، وإن كان محرمًا فإن كان ساكنًا مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكنًا فإن كان الباب مغلقًا لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحًا فوجهان، والأوجه الاستئذان، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثًا، ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاثًا»، واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم أدخل، فسمع الرجل فقال: أدخل».