فصل: بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ مَا حَلَّ. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. فَهَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَالٌّ عَلَى إِبَاحَةِ النِّكَاحِ. أَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَى بِالسَّقْطِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي أَلَا وَهِيَ النِّكَاحُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَكَّافِ بْنِ وَدَاعَةَ الْهِلَالِيِّ: أَتَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ أَنْتَ إِنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَمِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ. وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمُوا عَلَى جَبِّ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّخَلِّي لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمْ وَقَالَ: لَا زِمَامَ وَلَا خِزَامَ وَلَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا سِيَاحَةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الزِّمَامُ وَالْخِزَامُ: فَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ زَمِّ الْأُنُوفِ، وَخَزْمِ التُّرَابِيِّ، وَأَمَّا الرَّهْبَانِيَّةُ فَهُوَ اجْتِنَابُ النِّسَاءِ وَتَرْكُ اللَّحْمِ. وَأَمَّا السِّيَاحَةُ: فَهِيَ تَرْكُ الْأَمْصَارِ وَلُزُومُ الصَّحَارِي. وَأَمَّا التَّبَتُّلُ: فَهُوَ الْوَحْدَةُ وَالِانْقِطَاعُ عَنِ النَّاسِ: وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَلَيْهِ مُجْمِعَةٌ، وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ غَضِّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينِ الْفَرَجِ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ مَنَاكِحُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: نِكَاحُ الرَّايَاتِ، وَنِكَاحُ الرَّهْطِ، وَنِكَاحُ الِاسْتِنْجَادِ، وَنِكَاحُ الْوِلَادَةِ. فَأَمَّا نِكَاحُ الرَّايَاتِ حكمه: فَهُوَ أَنَّ الْعَاهِرَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَنْصِبُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً: لِيَعْلَمَ الْمَارُّ بِهَا عُهْرَهَا فَيَزْنِي بِهَا، فَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الْأَنْعَامِ: 120] تَأْوِيلَان:
أحدهما: أَنَّ ظَاهِرَ الْإِثْمِ أُولَاتُ الرَّايَاتِ مِنَ الزَّوَانِي، وَبَاطِنَهُ ذَوَاتُ الْأَخْدَانِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَسْتَحْلِلْنَهُ سِرًّا. وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَهُ مَا حُظِرَ مِنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنَهُ الزِّنَا. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَمَّا نِكَاحُ الرَّهْطِ حكمه: فَهُوَ أَنَّ الْقَبِيلَةَ أَوِ الْقَبَائِلَ كَانُوا يَشْتَرِكُونَ فِي إِصَابَةِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمْ بِهِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ الِاسْتِنْجَادُ حكمه:
فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ وَلَدًا نَجْدًا تَحَسُّبًا، بَذَلَتْ نَفْسَهَا لِنَجِيبِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَسَيِّدِهَا، فَلَا تَلِدُ إِلَّا تَحَسُّبًا بِأَيِّهِمْ شَاءَتْ. وَأَمَّا نِكَاحُ الْوِلَادَةِ حكمه: فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْمَقْصُودُ لِلتَّنَاسُلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُ نَبِيَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْأَصْلَابِ الزَّاكِيَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 219] قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ، حَتَّى جَعَلَكَ نَبِيًّا، وَكَانَ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي أَيَّامِهِ ظَاهِرًا، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ كَاهِنَةً بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْهَرَمِ قَرَأَتِ الْكُتُبَ، فَمَرَّ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ أَنْ تَغْشَانِي وَتَأْخُذَ مِثْلَ الْإِبِلِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهُ وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَأَسْتَبِينُهُ فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهُ؟! فَلَمَّا تَزَوَّجَ آمِنَةَ، وَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّ فِي عَوْدِهِ بِفَاطِمَةَ، فَقَالَ: هَلْ لَكِ فِيمَا قُلْتِ: قَدْ كَانَ مَرَّةً فَالْيَوْمَ لَا، فَإِذَا سَبِعْتَ، فَقَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي بِآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةِ، فَقَالَتْ: قَدْ أَخَذَتِ النُّورَ الَّذِي قَدْ كَانَ فِي وَجْهِكَ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
إِنِّي رَأَيْتُ مَخِيلَةً نَشَأَتْ ** فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقِطْرِ

فَلَمَحْتُهَا نُورًا يُضِيءُ بِهِ ** مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْفَجْرِ

وَرَأَيْتُ سُقِيَاهَا حَيَّا بَلَدًا ** وَقَعَتْ بِهِ وَعِمَارَةُ الْقَفْرِ

وَرَأَيْتُهُ شَرَفًا أَبُوءُ بِهِ مَا ** كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي

لِلَّهِ مَا زُهْرِيَّةً سَلَبَتْ مِنْكَ ** الَّذِي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي

فصل: فَأَمَّا اسْمُ النِّكَاحِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ، فَجَازَ فِي الْوَطْءِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، فَجَازَ فِي الْعَقْدِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ حَرَّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَقْدِ لَمْ يُحَرِّمْ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ وَدَلِيلُهُ، لَكِنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ قِي الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ: وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَمَّا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اسْمًا لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ النِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ أَكْثَرُ، وَهُوَ بِهِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ وَهُوَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بَنُو دَارِمٍ أَكْفَاؤُهُمْ آلُ مِسْمَعٍ ** وَتَنْكِحُ فِي أَكْفَائِهَا الْحَبِطَاتُ

.بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ:

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ، وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ، افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ: لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُرْبَةً، وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ: زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فَصْلٌ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَقِيَّةِ الْبَابِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلشَّافِعِيِّ، فَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْهِ إِيرَادَ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنَّا فِيمَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ في النكاح مِنْ تَخْفِيفٍ وَلِوَفَاةِ زَوْجَاتِهِ الْمَخْصُوصَاتِ بِالْأَحْكَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّشَاغُلُ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَمَّا يَجِبُ وَيَلْزَمُ، فَصَوَّبَ أَصْحَابُنَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ، وَرَدُّوا عَلَى هَذَا الْمُعْتَرِضِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ فَرْضِ الْمُزَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ مَنَاكِحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: تَبَرُّكًا بِهَا، وَالتَّبَرُّكُ فِي الْمَنَاكَحِ مَقْصُودٌ كَالتَّبَرُّكِ فِيهَا بِالْخُطَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سَبْقَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُسَاوِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُنَاكَحَتِهِ، وَإِنْ سَاوَتْهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، ابْتَدَأَ بِهِ.
فصل: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لِمَا خَصَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَالْأُخْرَى: لَمَّا خَصَّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَمَنْ رَوَى بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجَعَلَ {مَا} بِمَعْنَى الَّذِي، وَاللَّامَ قَبْلَهَا لِلْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِأَجْلِ الَّذِي خَصَّ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وحي الله تعالى مِنْ وَحْيِهِ. وَمَنْ رَوَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ {مَا} بِمَعْنَى بَعْدَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيِهِ. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ جَائِزَةٌ، وَالْأُولَى أَظْهَرُ. وَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النِّسَاءِ: 163] فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ عَصْرِهِ حَتَّى بُعِثَ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِهِمْ فَكَانَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُصَّ بِانْتِهَاءِ الْوَحْيِ وَخَتْمِ النُّبُوَّةَ، حَتَّى لَا يَنْزِلَ بَعْدَهُ وَحَيٌّ، وَلَا يُبْعَثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَصَارَ خَاتَمًا لِلنُّبُوَّةِ، مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، حَتَّى بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ. وَفِيهِ تَأْوِيلَان:
أحدهما: إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَالثَّانِي: إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ الَّذِي يَبْقَى إِعْجَازُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَيَعْجَزُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ أَهْلُ كُلِّ عَصْرِهِ، وَلَيْسَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِعْجَازٌ يَبْقَى، فَصَارَ بِهَذَا الْوَحْيِ مَخْصُوصًا.
فصل: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] وَفِي أُولِي الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: هُمُ الْعُلَمَاءُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ.
وَالثَّالِثُ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. فَأَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ؟ وَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَبَايُنِهِمْ عَنْهُ، وَقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ، فَصَارَ هُوَ الْمَخْصُوصَ بِهَا دُونَهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاجِبَةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِأُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ، فَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ بَاقِيَةٌ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَطَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَبَقَاءِ نَظَرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
فصل: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- قُرْبَةً، وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ. وَهَذَا صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ، وَفَرَضَ الطَّاعَةَ: حَتَّى يُمَيَّزَ بِهِمَا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَيَّزَهُ عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظٌ. وَالْآخَرُ: تَخْفِيفٌ. فَأَمَّا التَّغْلِيظُ: فَهُوَ أَنْ فَرْضُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَقْوَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَصْبِرُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ.
وَالثَّانِي: لِيَجْعَلَ أَجْرَهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ أُجُورِهِمْ وَقُرْبَهُ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ قُرْبِهِمْ. وَأَمَّا التَّخْفِيفُ: فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَظْهَرَ بِهَا كَرَامَتُهُ وَتَبِينَ بِهَا اخْتِصَاصُهُ وَمَنْزِلَتُهُ.
وَالثَّانِي: لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا خَصَّهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَإِنْ أَلْهَاهُمْ وَلَا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْدَرُ وَبِحَقِّهِ أَقُومُ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِيَزِيدَهُ بِهَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- قُرْبَةً إِلَيْهِ كَانَ عَلَى شَكٍّ فِيهِ حَتَّى اسْتَثْنَى بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: لَيْسَتْ شَكًّا وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهَا تَحْقِيقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصَّافَّاتِ: 102].
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى إِذَا شَاءَ اللَّهُ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى إِذْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 27].
مَسْأَلَةٌ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا.
مسألة: فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا وَأُمِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَيِّرَ نَسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَاكِحِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِتَابُ النِّكَاحِ فَأَوْرَدَ مَا اخْتُصَّ بِالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَأَوْرَدَ مِنْهُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا خُصَّ بِهِ تَغْلِيظًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 28، 29] فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ الطَّلَاقَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمُقَامِ. وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْيِيرِ النبي لنسائه عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نِسَاءَهُ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُنَّ شَهْرًا، فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ. وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا، وَقُلْنَ: نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَطَالَبْنَهُ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ امْتِحَانَ قُلُوبِهِنَّ لِيَرْتَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ نِسَاءِ خَلْقِهِ، فَخَيَّرَهُنَّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، فَخَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا أَجَبْنَ إِلَى ذَلِكَ أَمْسَكَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الْغِنَى وَبَيْنَ الْفَقْرِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ جَعَلْتُ لَكَ جِبَالًا ذَهَبًا. فَقَالَ: صِفْ لِي الدُّنْيَا. فَقَالَ حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ. فَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ: لِأَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فَأَصْبِرُ وَأَشْبِعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ. فَحِينَئِذٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، لِمَا فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ- وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحْدَثَهُنَّ سِنًّا- فَتَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ: لِأَنَّهُ خَافَ مَعَ حُبِّهِ لَهَا أَنْ تُعَجِّلَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَتَخْتَارُ الدُّنْيَا، فَقَالَتْ: أَفَيَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟! قَدِ اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَيْهَا اخْتِيَارَهَا عِنْدَ أَزْوَاجِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ أَنْ يَغُلَّ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ، تَقُولُ: مَا اخْتَارَتْ عَائِشَةُ؟ فَيَقُولُ: اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيَّةِ وَكَانَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَسَرَّحَهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وُجِدَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ، وَهِيَ تَقُولُ: اخْتَرْتُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَلَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةَ.