فصل: مسألة مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ:

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ تَعَالَى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الْأَحْزَابِ: 32] فَأَبَانَهُنَّ بِهِ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الْأَحْزَابِ: 32] وَذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: لِمَا خَصَّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةِ رَسُولِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بَيْنَهُنَّ.
وَالثَّانِي: لِاصْطِفَائِهِنَّ لِرَسُولِهِ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا وَأَزْوَاجًا فِي الْآخِرَةِ.
وَالثَّالِثُ: لِمَا ضَاعَفَهُ لَهُنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَاتِ وَعِقَابِ السَّيِّئَاتِ.
وَالرَّابِعُ: لِمَا جَعَلَهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّهَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ، فَصِرْنَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ النِّسَاءِ، وَفِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ زَمَانِهِنَّ.
وَالثَّانِي: أَفْضَلُ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَان:
أحدهما: مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَدَمْتُنَّ التَّقْوَى فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، فَكُنَّ أَخَصَّهُنَّ بِالتَّقْوَى. فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَمْرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الْأَحْزَابِ: 32] وَفِي خُضُوعِهِنَّ بِالْقَوْلِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: فَلَا تَرْفَعْنَ بِالْقَوْلِ. وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: فَلَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّالِثُ: فَلَا تُكَلِّمْنَ بِالرَّفَثِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَالرَّابِعُ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مَا يَهْوَى الْمُرِيبُ. وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَالْخَامِسُ: هُوَ مَا يَدْخُلُ مِنْ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَفِي قَوْلِهِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَأْوِيلَان:
أحدهما: أَنَّهُ الْفُجُورُ. وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ النِّفَاقُ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ، مَسْأَلَةٌ خَصَّهُ تعالى بأن جعله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَخَصَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِكَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 6]، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا. أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِي دِفَاعِهِمْ عَنْهُ، وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ مِنْ دِفَاعِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى لَوْ عَطِشَ وَرَأَى مَعَ عَطْشَانَ مَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ، وَلَوْ رَأَوْا سُوءًا يَصِلُ إِلَيْهِ، لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا وَقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَإِسْعَافِهِمْ فِي نَوَائِبِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 6] فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ. فَكَانَ هَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وَاجِبًا عَلَيْهِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَامَ بِهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي سَهْمٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِنِ احْتَمَلَهُ.
مسألة ومِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ أن جعل أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} قَالَ: أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ بِحَالٍ، وَلَمْ تَحْرُمْ بَنَاتٌ لَوْ كُنَّ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّ بِهِ أَزْوَاجَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَنَّ جَعْلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الْأَحْزَابِ: 6] يَعْنِي اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ، وَهُنَّ تِسْعٌ، فَيَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي شَيْئَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَثَالِثٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ، أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ: تَعْظِيمُ حَقِّهِنَّ وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِنَّ، كَمَا يَلْزَمُ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الْأَحْزَابِ: 32].
وَالثَّانِي: تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى لَا يَحْلِلْنَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ مِنَ الْخَلْقِ، كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الْأَحْزَابِ: 53] وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ: أَيَحْجِبُنَا رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَنَاتِ عَمِّنَا وَيَتَزَوَّجُ نِسَاءَنَا مِنْ بَعْدِنَا، لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ لِنَتَزَوَّجُنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلِأَنَّ حُكْمَ نِكَاحِهِنَّ لَا يَنْقَضِي بِمَوْتِهِ لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَتَحْرِيمِهِنَّ فِي حَيَاتِهِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: اخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ هَلْ يَصِرْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي الْمُحَرَّمِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْأُمَّهَاتِ نَسَبًا وَرَضَاعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِهِ فِيهِنَّ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَرَادَتْ دُخُولَ رَجُلٍ عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتَهَا أَسْمَاءَ أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَصِيرَ ابْنَ أُخْتِهَا: فَيَصِيرُ مَحْرَمًا لَهَا، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي النَّفَقَةِ بِالْمِيرَاثِ: فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى وَإِذَا كُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَفِي كَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّهْ، فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ، وَإِنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ.
اختلاف الشافعية في وجوب العدة على زوجات الرسول بوفاته عنهن وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجات النبي عَنْهُنَّ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ: لِأَنَّهُنَّ حُرِّمْنَ كَانَ كُلُّ زَمَانِهِنَّ عِدَّةً.
وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِنَّ- تَعَبُّدًا- أَنْ يَعْتَدِدْنَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِمَا فِي الْعِدَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ وَلُزُومِ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ نَفَقَاتُهُنَّ تَجِبُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي سَهْمِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، لِبَقَاءِ تَحْرِيمِهِنَّ، وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَجْرَى لَهُنَّ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَطَاءً فَائِضًا، فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجَاتِهِ.

.فصل اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ:

فصل: فَأَمَّا اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يِدْخُلْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 28] وَإِرَادَةُ الدُّنْيَا مِنْهُنَّ هِيَ طَلَبُ الْأَزْوَاجِ لَهُنَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ الْمُطَلَّقَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَيَ الْآخِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ: تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الرَّسُولِ فِيهِنَّ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي، وَلِيَحْفَظَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةَ رَسُولِهِ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ يَبْغَضُ مِنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَزْوَاجِهَا، وَالتَّعَرُّضِ لِبُغْضِ الرَّسُولِ كُفْرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ-: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ حَرُمْنَ صِيَانَةً لِخَلْوَةِ الرَّسُولِ أَنْ تَبْدُوَ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ تَزَوَّجَتْ ثَانِيًا بَعْدَ الْأَوَّلِ أَنْ تَذُمَّ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ حَمِدَتْهُ، وَتَحْمَدُ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ ذَمَّتْهُ، وَلِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ.
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَأَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ تُخَيَّرَ إِنْ شَاءَتْ، وَأَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ، وَتَحْرُمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحْرُمَ عَلَيْهَا مَا يُجْرَى عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ، فَاخْتَارَتِ النِّكَاحَ فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِحَضْرَمَوْتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أُحَرِّقَ عَلَيْكُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا ضَرَبَ عَلَيْهَا حِجَابًا، فَكَفَّ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ تَزَوُّجَ امْرَأَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَفَارَقَهَا، فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهِمَا، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَكَفَّ عَنْهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ وَجْهَان:
أحدهما: تَجِبُ كَمَا تَجِبُ نَفَقَاتُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ: لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ قَبْلَ الْوَفَاةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَهَا: وَلِأَنَّهَا مَبْتُوتَةُ الْعِصْمَةِ بِالطَّلَاقِ.

.فصل حكم مِنْ وَطِئَهَا مِنْ إِمَائِهِ:

فصل: فَأَمَّا مِنْ وَطِئَهَا مِنْ إِمَائِهِ النبي، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ مِثْلُ مَارِيَةَ أُمِّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ كَالزَّوْجَاتِ أَمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ لِنَقْصِهَا بِالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهَا وَمَلَكَهَا مُشْتَرِيهَا بَقِيَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَجْهَانِ كَالْمُطَلَّقَةِ.
فصل: فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُمْ- وَإِنْ كُنَّ كَالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ- فَلَسْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِنَّ، أَنْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ مِنْهُنَّ: لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا مِنْ بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ- قَبْلَ النُّبُوَّةِ- زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَزَوَّجَ- قَبْلَ النُّبُوَّةِ- رُقْيَةَ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَطَلَّقَهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِمَكَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَبَلَغَ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَأُمُّهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بَعْدَهَا بِأُمِّ كُلْثُومَ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْنَاكَ. وَزَوَّجَ عَلِيًّا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَاطِمَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَلَمَّا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بَنَاتِهِ، عُلِمَ اخْتِصَاصُ نِسَائِهِ مَنْ حُكْمِ الْأُمَّهَاتِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّحْرِيمِ، إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: مَا زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ فِي النَّقْلِ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّ: قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ، وَهُنَّ غَيْرُ أَخَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. فَغَلِطَ فِي النَّقْلِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ أَوْ يُزَوِّجُهُنَّ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ.
فصل: وَمِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السَّيِّئَاتِ، وَضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَإِكْرَامًا لِرَسُولِهِ، أَنْ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السَّيِّئَاتِ، وَضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الْأَحْزَابِ: 30] وَفِي الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ هَاهُنَا تَأْوِيلَان:
أحدهما: الزِّنَا. وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمَا ضِعْفَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابَانِ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ جُرْمِهِنَّ بِأَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ السَّرِقَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجُعِلَ عَذَابَهُنَّ ضِعْفَيْنِ، وَعَلَى مَنْ قَذَفَهُنَّ الْحَدَّ ضِعْفَيْنِ، وَلَمْ أَرَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ إِنَّمَا حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ فِي أَمْرِ مُضَاعَفَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ. قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْعَبْدِ نِصْفَ حَدِّ الْحَرِّ لِنَقْصِهِ عَنْ كَمَالِ الْحُرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْأَحْزَابِ: 31] أَيْ يُطِيعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ ثُمَّ قَالَ: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 31] فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، كَمَا ضُوعِفَ عَلَيْهِنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، فَصَارَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَزِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِنَّ، وَفِي أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهَا: أَنَّ كِلَا الْأَجْرَيْنِ فِي الْآخِرَةِ.