فصل: الفصل الثالث: في شرح كيفية التمثيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الثالث: في شرح كيفية التمثيل:

اعلم أنه لابد في التشبيه من أمرين: المشبه والمشبه به، واختلف الناس هاهنا في أن المشبه أي شي هو؟ وذكروا وجوهًا: أحدها: وهو قول جمهور المتكلمين ونصره القاضي أن المراد من الهدى التي هي الآيات البينات، والمعنى أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية.
وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير، قلنا إنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات، وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل هاهنا أليق وأوفق، واعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذا المثال مما توجب كمال الضوء فأولها: المصباح لأن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أكثر إنارة، والذي يحقق ذلك أن المصباح إذا كان في بيت صغير فإنه يظهر من ضوئه أكثر مما يظهر في البيت الكبير وثانيها: أن المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإن الأشعة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الصفاء والشفافية وبسبب ذلك يزداد الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء الظاهر حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإن انعكست تلك الأشعة من كل واحد من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية الممكنة وثالثها: أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد به، فإذا كان ذلك الدهن صافيًا خالصًا كانت حالته بخلاف حالته إذا كان كدرًا وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت فربما يبلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه ورابعها: أن هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجًا، فكان زيته أكثر صفاء وأقرب إلى أن يتميز صفوه من كدره لأن زيادة الشمس تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة وتعاونت صار ذلك الضوء خالصًا كاملًا فيصلح أن يجعل مثلًا لهداية الله تعالى وثانيها: أن المراد من النور في قوله: {والأرض مَثَلُ نُورِهِ} القرآن ويدل عليه قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} [المائدة: 15] وهو قول الحسن وسفيان بن عيينة وزيد بن أسلم وثالثها: أن المراد هو الرسول لأنه المرشد، ولأنه تعالى قال في وصفه: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 46] وهو قول عطاء، وهذان القولان داخلان في القول الأول، لأن من جملة أنواع الهداية إنزال الكتب وبعثة الرسل.
قال تعالى في صفة الكتب: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقال في صفة الرسل: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] ورابعها: أن المراد منه ما في قلب المؤمنين من معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع، ويدل عليه أن الله تعالى وصف الإيمان بأنه نور والكفر بأنه ظلمة، فقال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] وقال تعالى: {لّيُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} وحاصله أنه حمل الهدى على الاهتداء، والمقصود من التمثيل أن إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات، والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور، وهو قول أبي ابن كعب وابن عباس، قال أبي: مثل نور المؤمن، وهكذا كان يقرأ، وقيل إنه كان يقرأ: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس: مثل نوره في قلب المؤمن وخامسها: ما ذكره الشيخ الغزالي رحمه الله وهو: أنا بينا أن القوى المدركة أنوار، ومراتب القوى المدركة الإنسانية خمسة أحدها: القوة الحساسة، وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس وكأنها أصل الروح الحيواني، وأوله إذ به يصير الحيوان حيوانًا وهو موجود للصبي الرضيع وثانيها: القوة الخيالية وهي التي تستثبت ما أورده الحواس وتحفظه مخزونًا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه.
وثالثها: القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ورابعها: القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفًا فتستنتج من تأليفها علمًا بمجهول وخامسها: القوة القدسية التي تختص بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الأولياء، وتتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [والشورى: 52] وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار، إذ بها تظهر أصناف الموجودات، وأن هذه المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة التي ذكرها الله تعالى وهي: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت.
أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من عدة أثقب كالعينين والأذنين والمنخرين وأوفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة وأما الثاني: وهو الروح الحيالي فنجد له خواص ثلاثة: الأولى: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحيز، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي هي التعقلات الكلية المجردة والثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق وهذب صار موازنًا للمعاني العقلية ومؤديًا لأنوارها وغير حائل عن إشراق نورها، ولذلك فإن المعبر يستدل بالصور الخيالية على المعاني العقلية، كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح والثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جدًا ليضبط بها المعارف العقلية ولا تضطرب، فنعم المثالات الخيالية الجالبة للمعارف العقلية، وأنت لا تجد شيئًا في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات الثلاثة إلا الزجاجة، فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه على الانطفاء بالرياح العاصفة وأما الثالث: وهو القوة العقلية فهي القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية، فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح، وقد عرفت هذا حيث بينا كون الأنبياء سرجًا منيرة وأما الرابع: وهو القوة الفكرية فمن خواصها أنها تأخذ ماهية واحدة، ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا الموجود إما واجب وإما ممكن، ثم تجعل كل قسم مرة أخرى قسمين وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وهي ثمراتها، ثم تعود فتجعل تلك الثمرات بذورًا لأمثالها حتى تتأدى إلى ثمرات لا نهاية لها، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة، وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف ونباتها، فبالحري أن لا يمثل بشجرة السفرجل والتفاح، بل بشجرة الزيتون خاصة، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان، وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالذي لا يتناهى إلى حد محدود أولى أن يسمى شجرة مباركة، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام، فبالحري أن تكون لا شرقية ولا غربية وأما الخامس: وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه وإلى ما لا يحتاج إليه، ولابد من وجود هذا القسم قطعًا للتسلسل، فبالحري أن يعبر عن هذا القسم بكماله وصفائه وشدة استعداده بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فهذا المثال موافق لهذا القسم، ولما كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال والخيال كالمقدمة للعقل، فبالحري أن تكون المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح وسادسها: ما ذكره أبو علي بن سينا فإنه نزل هذه الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية، فقال لا شك أن النفس الإنسانية قابلة للمعارف الكلية والإدراكات المجردة، ثم إنها في أول الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف فهناك تسمى عقلًا هيوليًا وهي المشكاة وفي المرتبة الثانية: يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية، ثم إن أمكنة الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة جدًا فهي الزجاجة التي تكون كأنها الكوكب الدري، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفي المرتبة الثالثة: يكتسب من العلوم الفطرية الضرورية العلوم النظرية إلا أنها لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه وهذا يسمى عقلًا بالفعل وهذا المصباح وفي المرتبة الرابعة: أن تكون تلك المعارف الضرورية والنظرية حاصلة بالفعل ويكون صاحبها كأنه ينظر إليها وهذا يسمى عقلًا مستفادًا وهو نور على نور لأن الملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر، ثم زعم أن هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية، إنما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار وسابعها: قول بعض الصوفية هو أنه سبحانه شبه الصدر بالمشكاة والقلب بالزجاجة والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنما توقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة لقوله تعالى: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] وقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وإنما شبه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية وإنما وصفهم بقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} لكثرة علومها وشدة إطلاعها على أسرار ملكوت الله تعالى والظاهر هاهنا أن المشبه غير المشبه به وثامنها: قال مقاتل مثل نوره أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد الله والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه وتاسعها: قال قوم المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام والمصباح نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والشجرة النبوة والرسالة وعاشرها: أن قوله مثل نوره يرجع إلى المؤمن وهو قول أبي بن كعب وكان يقرأها مثل نور المؤمن، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك، واعلم أن القول الأول هو المختار لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل هداه وبيانه كان ذلك مطابقًا لما قبله، ولأن لما فسرنا قوله: {الله نُورُ السموات والأرض} بأنه هادي أهل السموات والأرض فإذا فسرنا قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} بأن المراد مثل هداه كان ذلك مطابقًا لما قبله.