فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية، وقالت فرقة الضمير في {نوره} عائد على {الله} ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب النور الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله، فقال بعضها هو محمد، وقال بعضها هو المؤمن، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا {الله نور السماوات والأرض} بمعنى الضوء، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن، والإيمان {كمشكاة} وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه.
وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام، وهو قول كعب الحبر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، هو المشكاة أو صدره، و{المصباح} هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه، و{الزجاجة} قلبه والشجرة المباركة هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين، والآيات التي تضمنها الوحي، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب، ف المشكاة صدره، و{المصباح} الإيمان والعلم، و{الزجاجة} قلبه والشجرة القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها، قال أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام {مثل نوره} الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه {كمشكاة} أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أية البشر، والمشكاة الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، و{المصباح} فيها أكثر إنارة من غيرها، وقال مجاهد المشكاة العمود الذي يكون {المصباح} على رأسه، وقال أبو موسى المشكاة الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة، وقال مجاهد ايضًا المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل، والأول أصح هذه الأقوال، وقوله: {في زجاجة} لأنه جسم شفاف {المصباح} فيه أنور منه في غير الزجاج، و{المصباح} الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من {مشكاة} فكسر الكاف التي قبلها، وقرأ نصر بن عاصم {في زَجاجة} بفتح الزاي، و{الزجاجة} كذلك وهي لغة، وقوله: {كأنها كوكب دري} أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين: إما أن يريد انها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور، قال الضحاك الكوكب الدري الزهرة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {دُريّ} بضم الدال وشد الياء.
ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {دريء} بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضًا أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور وفي السرية إذا اشتقت من السرو، ووجه هذه القراءة أبو علي، وضعفها غيره، وقرأ أبو عمرو والكسائي {دريء} على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة، وقرأ قتادة {دَريء} بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما عزيز وإنما حفظ منه السكّينة بشد الكاف، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم {دري} بفتح الدال دون همزة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى {توقد} بضم التاء أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن {تَوَقّدُ} بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو أيضًا وابن كثير {تَوقَد} بفتح التاء والدال أي المصباح، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل {يوقد} بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة {يَوَقَّدُ} بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد، وقوله: {من شجرة} أي من زيت شجرة، والمباركة المنمأة، والزيتون من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولاسيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية ابن شمس: الخفيف:
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو ** وليتٌ يقولها المحزون

بورك الميّت الغريب كما بو ** رك الرمّانُ والزيتون

وقوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفًا على {زيتونة} وقرأ الضحاك {لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ} بالرفع، واختلف المتأولون في معناه، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أَن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية، وقال ابن زيد أراد أَنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي الأرض المباركة، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله: {لا شرقية ولا غربية} أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، وقوله: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته، وقرأ الجمهور {تمسسه} بالتاء من فوق، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت، وقوله: {نور على نور} أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {اللّهُ نُور السموات والأرض}.
فيه قولان:
أحدهما: هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافًا إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به، والخلائق بنوره يهتدون.
والثاني: مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزجاج.
وقرأ أُبيّ ابن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع: {اللّهُ نَوَّرَ} بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء {السمواتِ} بالخفض {والأرضَ} بالنصب.
قوله تعالى: {مَثَل نُوره} في هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن.
والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مَثَل نُور المؤمن، قاله أُبيّ ابن كعب.
وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: {مثل نُور مَنْ آمن به}.
والثالث: أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله كعب.
والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان.
فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد.
والثالث: أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء: المشكاة: الكوّة التي ليست بنافذة.
وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة.
وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءًا منه في غيره.
وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: {في زَجاجة الزَّجاجة} بفتح الزاي فيهما.
وقرأ معاذ القارىء، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: بكسر الزاي فيهما، قال بعض أهل المعاني: معنى الآية: كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب.
فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبان عن عاصم {دِرِّيءٌ} بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودًا مهموزًا.
قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إِنه من الكواكب الدَّراريء، وهي اللاتي يَدْرأنْ عليك، أي: يطلُعن.
وقال الزجاج: هو مأخوذ من درأ يدرأ: إِذا اندفع منقضًّا، فتضاعف نوره، يقال: تدارأ الرجلان: إِذا تدافعا.
وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمر، والزهري.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {دُرِّيٌّ} بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم، الجحدري: {دَرِيءُ} بفتح الدال وكسر الراء ممدودًا مهموزًا، وقرأ أُبيّ ابن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز.
وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزًا مقصورًا.
قال الزجاج: الدُّرِّيّ: منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه.
وقال الكسائي: الدُّرِّيءُ: الذي يشبه الدُّرّ، والدِّرِّيءُ: جارٍ، والدَّرِّيءُ: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ.
قال الزجاج: فالنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا؛ وقال الفراء: ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام فُعِّيل إِلا أعجمي، مثل مُرِّيق، وما أشبهه.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: المُرّيق: العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل.
قال أبو علي: وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب: كوكب دُرِّيء: من الصفات، ومن الأسماء: المُرِّيق: العُصْفر.
قوله تعالى: {تَوَقَّدَ} قرأ ابن كثير.
وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {يُوقَدُ} بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضًا.
وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {تُوقَد} بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف.
قوله تعالى: {من شجرة} أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله: {يكاد زيتها يضيء}؛ والمراد بالشجرة هاهنا: شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأُدْم والدُهن والوقود، فيوقد بحطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره.
وإِنما خُصَّت بالذِّكْر هاهنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ.
قوله تعالى: {لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أُبيّ ابن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج.
والثالث: أنها من شجر الجنة، لا من شجرة الدُّنيا، قاله الحسن.
قوله تعالى: {يكاد زيتها يُضيء} أي: يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به.