فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عجيبة:

يقول الحق جل جلاله: {الله نورُ السموات والأرض} أي: منور أهلهما بنور الإسلام والإيمان؛ لأهل الإيمان، وبنور الإحسان؛ لأهل الإحسان، فحقيقة النور: هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا: المعنوية؛ بدليل قوله: {يهدي الله لنُوره من يشاء} فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى: نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى: نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى: نور الإحسان. فالأول: يشبه نور النجوم، والثاني: نور القمر، والثالث نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية: نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال {مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن- كما هي قراءة ابن مسعود- {كمشكاةٍ} أي: كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعًا، فيكون أزهر وأنور، {فيها مصباح} أي: سراج ضخم ثاقب، {المصباحُ في زجاجة} أي: في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، {الزجاجةُ} من شدة صفائها {كأنها كوكب دُرِّيِّ}؛ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر؛ لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز: «أبو عمرو»؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز: أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما. {تَوَقَدُ} بالتخفيف والتأنيث، أي: الزجاجة، أو {يُوقَدُ} بالتخفيف والغيب، أو: {تَوَقَّدَ} بالتشديد، أي: المصباح {من شجرةٍ} أي من زيت شجرة الزيتون، أي: رويت فتيلته من زيت {شجرةٍ مباركةٍ}؛ كثيرة المنافع، أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل: بارك فيها سبعون نبيًا، منهم إبراهيم عليه السلام.
{زيتونةٍ}: بدلٌ من {شجرة} من نعتها {لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ} أي: ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أَنْضَرُ لها، وأوجود لزيتونها. وقيل: ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
{يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ}؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلًا. {نورٌ على نورٍ} أي: نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة.
يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. {نورٌ على نورٍ} أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام.
{يهدي الله لنوره} أي: لهذا لنور الباهر {من يشاء} من عباده؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. {ويضرب الله الأمثالَ للناس}؛ تقريبًا للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس {والله بكل شيءٍعليمٌ} معقولًا كان أو محسوسًا، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقًا وكشفًا.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلًا لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: {مثل نوره} الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، {كمشكاة فيها مصباح} أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من نور النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: {المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري} إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى: {ولو لم تمسسه نار} قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: {نورٌ على نور} أي: نور ملكوته على نور جبروته، {يهدي الله لنوره} أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، {من يشاء} من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له؛ يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته»، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله: {أو كظلمات} إلخ.
وفي الحِكَم: الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار. فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه: مشكاة الأنوار، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى: النور: يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم، ولذلك قال قائلهم:
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ ** وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ

وفي لطائف المنن: الله نور السموات والأرض؛ نور سموات الأرواح بمشاهدته، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصًا، وهو الظاهر في كل شيء عمومًا، ظهر فيهم بأنواره وأسراره، كما ظهر فيهم، وفيما عداهم بقدرته واقتداره. اهـ.

.قال القاسمي:

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: منوّرهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار. فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره. كما يطلق السبب على مسببه. أو مدبرهما، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازًا. أو استعارة استعير النور بمعنى: المنور، للمدبر، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره- كما قاله الغزالي- فيكون أطلق عليه تعالى مجازًا مرسلًا باعتبار لازم معناه.
قال أبو السعود: وعبر عن المنوّر بالنور، تنبيهًا على قوة التنوير وشدة التأثير. وإيذانًا بأنه تعالى ظاهر بذاته، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره. كما أن النور نيّر بذاته وما عداه مستنير به. وأضيف النور إلى: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للدلالة على سعة إشراقه. أو المراد بهما العالم كله: {مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نوره العجيبة الشأن. قال أبو السعود: أي: نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين. كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين. وقد صرح بكونه نورًا أيضًا في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ} أي: كصفة كوّة- طاقة- غير نافذة في الجدار، في الإنارة والتنوير: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي: سراج ضخم ثاقب- شديد الإضاءة- وقيل: المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل، والمصباح الفتيلة المشتعلة: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي: قنديل من الزجاج الصافي الأزهر: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي: متلألئ وقَّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي: كثيرة المنافع، بأن رويت فتيلته بزيتها: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}. أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط، ولا غربية تقع عليها عند الغروب. ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها. كصحراء أو رأس جبل. فزيتها أضوأ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي: يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي: ذلك النور الذي عبر به عن القرآن، ومثلت صفته العجيبة بما فضل عن صفة المشكاة. نور عظيم كائن على نور كذلك.
فنور خبر مبتدأ محذوف، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكة للتمثيل، وتصريح لما حصل منه، وتمهيد لما يعقبه. وليس معنى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نور واحد فوق آخر مثله، ولا مجموع نورين اثنين فقط، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر. فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة، كان أضوأ له وأجمع لنوره. بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر. والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة. وكذلك الزيت وصفاؤه. وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقًا، مرتبة أخرى عادة {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: لهذا النور الثاقب العظيم الشأن، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيّته.
قال أبو السعود: وإظهاره في مقام الإضمار. لزيادة تقريره، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عزَّ وجلَّ: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أي: ليدنو لهم المعقول من المحسوس، توضيحًا وبيانًا. ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن، بنور المشكاة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: فلا يخفى عليه شيء وفيه وعد ووعيد. لأن علمه تعالى، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة- آية النور- من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة. منها مشكاة الأنوار للإمام الغزالي، وقد نقل عنه الرازيّ في تفسيره هنا جملة سابغة الذيل. ورأيت للإمام ابن القيم في كتابه الجيوش الإسلامية ما يجمل إيراده، تعزيزًا للمقام واستظهارًا بزيادة العلم.
قال رحمه الله: سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورًا وجعل كتابه نورًا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورًا ودينه نورًا. واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورًا يتلأَلأ، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقد فسر بكونه منوّر السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض. فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض. وهذا إنما هو فعله. وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين. إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. فالأول كقوله عزَّ وجلَّ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى، إذا جاء لفصل القضاء. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور: «أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت». وفي الأثر الآخر: «أعوذ بوجهك- أو بنور وجهك- الذي أشرقت له الظلمات». فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله. كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبرانيّ والسنة له وكتاب عثمان الدارمي وغيرها، عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه. وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض. وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «نور، أنَّى أراه» فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: معناه كان ثمة نور، وحال دون رؤيته نور، فأنى أراه؟ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورًا. وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال: نورانيٌّ أراه. على أنها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة. وهذا خطأ لفظًا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله: «أنَّى أراه» كالإنكار للرؤية، حاروا في الحديث، ورده بعضهم باضطراب لفظه، وكل هذا عدول عن موجب الدليل. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم يرَ رَبّه ليلة المعراج. وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك. وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة. فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عزَّ وجلَّ. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما. ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «حجابه النور» فهذا النور، والله أعلم. النور المذكور في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه «رأيت نورًا».
ثم قال ابن القيم: وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن. كما قال أبيّ بن كعب وغيره: وقد اختلف في الضمير في نوره فقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم. أي: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: مفسره المؤمن. أي: مثل نور المؤمن.
والصحيح أن يعود على الله تعالى. والمعنى: مثل نور الله سبحانه في قلب عبده. وأعظم عباده نصيبًا من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور- وهو وجه الكلام- يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظًا ومعنى. وهذا النور يضاف إلى الله تعالى. إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه. ويضاف إلى العبد. إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة. وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار. الهادي لنوره من يشاء. والقابل: العبد المؤمن. والمحل: قلبه. والحامل: همته وعزيمته وإرادته. والمادة: قوله وعمله. وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن، بما أناله من نوره، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم. وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان: إحداهما: طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذًا وأسلم من التكلف. وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن. فتأمل صفة المشكاة، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء، وقد وضع فيها مصباح، ذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدريّ في صفائها وحسنها. ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محميّة بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار. فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به. والطريقة الثانية، طريقة التشبيه المفصل. فقيل: المشكاة صدر المؤمن، والزجاجة قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها. وكذلك قلب المؤمن. فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة. فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه. تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء. وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى. ويقوم بالحق لله تعالى. وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها. والمصباح هو نور الإيمان في قلبه. والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد منها. والنور على النور، نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب. فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نورًا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر. ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به. فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي. فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة. بل يتصادقان ويتوافقان. فهذا علامة النور على النور. انتهى. اهـ.