فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو: {فلا صدَّق ولا صلىَّ} [القيامة: 31] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض».
واعلم أيضًا أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب لا ولا بقوله في المقامة السادسة والأربعين: بورك فيك من طلا كما بورك في لا ولا، أي في الشجرة التي قال الله في شأنها: {لا شرقية ولا غربية}.
ثم يحتمل أن يكون معنى: {لا شرقية ولا غربية} أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية.
وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام.
ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب، أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها، فبذلك يكون زيتها أجود زيت وإذا كان أجود كان أشد وقودًا ولذلك أتبع بجملة: {يكاد زيتها يضيء} وهي في موضع الحال.
وجملة: {ولو لم تمسسه نار} في موضع الحال من {زيتها}.
والزيت: عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية، مثل زيت السمسم والجلجلان.
وهو غذاء.
ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصابًا خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم.
و{لو} وصلية.
والتقدير: يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار.
وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضًا مفرَّق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة.
ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال: نوره كمصباح في مشكاة.
إلى آخره.
فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن.
شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشارًا وإشراقًا.
وجملة: {نور على نور} مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصرًا فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعًا في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقيًا صافيًا كان أشد إسراجًا، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به.
فقوله: {نور} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {مثل نوره كمشكاة} إلى آخره، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور.
و{على} للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون.
والمعنى: أنه نور مكرر مضاعف.
وقد أشرت آنفًا إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهًا لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل.
فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام.
وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيينُ الحقائق من ذلك الإرشاد.
وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34].
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.
وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرِّط.
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.
وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بيّن قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.
وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومىء إلى استمرار هذا الإرشاد.
كما أن قوله: {من شجرة} يوميء إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط.
{يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شيء عَلَيِمٌ}.
هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل.
والمعنى: دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هَدْيَ أحد خلقه وجبله على العناد والكفر.
وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوّا منهم التذكرُ بها: فمنهم من يعتبر بها فيهتدي، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طُبع على قلبه.
وجملة: {والله بكل شيء عليم} تذييل لمضمون الجملتين قبلها، أي لا يعزب عن علمه شيء.
ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصرّ على غيّه.
وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
قلنا: فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره؛ لأن نور الله كافٍ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضًا كافٍ في المعنويات.
فإذا شرع الله حكمًا معنويًا يُنظِّم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.
{الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35] كما نقول ولله المثل الأعلى: فلان نوَّر البيت، فالآية لا تُعرِّف الله لنا، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحًا غيرَ خفيّ.
ثم يضرب لنا ربنا- عز وجل- مثلًا توضيحيًا لنوره، فيقول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] أي: مثَلُ تنويره للسموات وللأرض {كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديمًا في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قويًا، ولا يصنع ظِلًا أمام مسار الضوء.
والمصباح: إناء صغير يُوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلًا، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخانًا؛ لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق؛ لذلك جعلوا على الفتيل حاجزًا من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافيًا لا دخانَ فيه، وكانوا يسمونه الهباب.
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: {المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] يعني: كوكب من الدُّرِّ، والدُّر ينير بنفسه.
كذلك زَيْتها ليس زيتًا عاديًا، إنما زيت زيتونة مباركة.
يقول الحق سبحانه: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35].
يعني: شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء، لكن كيف ذلك؟
قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلمًا، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلمًا، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء.
وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه {يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس.
إذن: مَثْلُ تنوير الله للسموات وللأرض مثل هذه الصورة مكتلمة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسموات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسموات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف. وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان.
وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب، فقال:
إقْدَامُ عَمْرٍ فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ ** في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ أيَاسِ

فجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب؛ لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضًا عليه: كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب؟ فالأمير فوق مَنْ وصفتَ.
فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية:
لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلًا ** شَرُودًا في النَّدَى والبَاسِ

فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ ** مَثَلًا من المشْكَاةِ والنِّبراسِ

فالله تبارك وتعالى هو نور السموات والأرض أي: مُنوِّرهما، وهذا أمر واضح جدًا حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون، بحيث لا يظهر معه نور آخر، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد، لكن يغلب على نورها نور الشمس، على حَدٍّ كقول الشاعر في المدح:
كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ ** إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُ

ثم يقول سبحانه: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] فلم يتركنا الحق سبحانه وتعالى في النور الحسيِّ فقط، إنما أرسل إلينا نورًا آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة، كأنه تعالى يقول لنا: بعثت إليكم نورًا على نور، نور حِسيِّ، ونور قيمي معنوي، وإذا شهدتم أنتم بأن نوري الحسيّ ينير لكم السموات والأرض، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنواركم، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغَى على كل مناهجكم، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله.
وقوله تعالى: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} [النور: 35] أي: لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به.
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب: «من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله».
والعجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نورًا على نور، كما قال سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].
وقال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
ثم يقول تعالى: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} [النور: 35].
يعني للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [نور: 35]. اهـ.