فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب النزول:

قال الفخر:
ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهًا أحدها: ما روي عن كعب أنه قال، قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فقال: يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال: يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط، قال: يا موسى اذكرني على كل حال، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثانيها: أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها: أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه السلام: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا قريبًا».
ورابعها: ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي الله؟ فأنزل هذه الآية.
وخامسها: قال عطاء وغيره: إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وسادسها: ما ذكره ابن عباس، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية.
وسابعها: قال الحسن: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
وثامنها: ما ذكرنا أن قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعالى هل يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية. اهـ.
وقيل: إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعدما صلّى العشاء فندم على ذلك وبكى؛ وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتمَّا؛ وكان ذلك قبل نزول الرخصة؛ فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في تلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تشريفِه ورفعِ محله. اهـ.

.قال الفخر:

واعلم أن قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالًا عن ذات الله تعالى، أو عن صفاته، أو عن أفعاله، أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه، فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات، وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعًا على كونه تعالى سميعًا، أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء، وهل أذن في الدعاء، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين، كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا، وهل يفعل ما نسأله عنه فقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} يحتمل كل هذه الوجوه، إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول: أن ظاهر قوله: {عَنّي} يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله والثاني أن السؤال متى كان مبهمًا والجواب مفصلًا، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين، فلما قال في الجواب: {فَإِنّي قَرِيبٌ} علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، ولقائل أيضًا أن يقول بل السؤال كان على الفعل، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بدليل أنه لما قال: {فَإِنّي قَرِيبٌ} قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} فهذا هو شرح هذا المقام. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ، فيحتاج هاهنا إلى بيان مطلوبين:
المطلوب الأول: في بيان أن هذا القريب ليس قربًا بحسب المكان، ويدل عليه وجوه الأول: أنه لو كان في المكان مشارًا إليه بالحس لكان منقسمًا، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد.
ولو كان منقسمًا لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره، فلو كان في مكان لكان مفتقرًا إلى غيره، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق، وذلك في حق الخالق القديم محال، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني: أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات، أو غير متناه عن جهة دون جهة، أو كان متناهيًا من كل الجوانب والأول: محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني: محال أيضًا لهذا الوجه، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهيًا والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه، فيلزم منه كونه تعالى مركبًا من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
وأما القسم الثالث: وهو أن يكون متناهيًا من كل الجوانب، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث: وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربًا بالجهة، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريبًا من الكل، بل كان يكون قريبًا من حملة العرش وبعيدًا من غيرهم، ولكان إذا كان قريبًا من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيدًا من عمرو الذي هو بالمغرب، فلما دلت الآية على كونه تعالى قريبًا من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربًا بحسب الجهة، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم، أو المراد من هذا القرب: العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقال: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادله: 7] والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلًا بالتشبيه، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا: أين ربنا؟ صح أن يكون الجواب: فإني قريب، وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا: هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح أن يقول في جوابه: فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بأخفائه؟ صح أن يجيب بقوله: فإني قريب، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء؟ صلح هذا الجواب أيضًا، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صلح أن يجيب بقوله: فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم، فثبت أن هذا الجواب مطابق للسؤال على جميع التقديرات. اهـ.
قال الفخر:
قال أبو سليمان الخطابي: الدعاء مصدر من قولك: دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول: سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتًا وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم: رجل عدل.
وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة.
وأقول: اختلف الناس في الدعاء، فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة، واحتجوا عليه من وجوه:
أحدها: أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضًا إلى الدعاء.
وثانيها: أن حدوث الحوادث في هذا العالم لابد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته، وإلا لزم إما التسلسل، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديمًا أزليًا كان واجب الوقوع، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديمًا أزليًا كان ممتنع الوقوع، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا: الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئًا منها، فأي فائدة في الدعاء، وقال عليه الصلاة والسلام: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عامًا».
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «جف القلم بما هو كائن».
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أربع قد فرغ منها: العمر والرزق والخلق والخلق».
وثالثها: أنه سبحانه علام الغيوب: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور} [غافر: 19] فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها: أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها: ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها: أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل، أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فقوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات: 42] وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة: 219] {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} [البقرة: 217] {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة: 222] وقال أيضًا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} [الكهف: 83] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ في الكلالة} [النساء: 176].
إذا عرفت هذا: فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد: قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله: فقل مع فاء التعقيب، والسبب فيه أن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا} [طه: 105] كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكنًا في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني: أن قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} يدل على أن العبد له وقوله: {فَإِنّي قَرِيبٌ} يدل على أن الرب للعبد وثالثها: لم يقل: فالعبد مني قريب، بل قال: أنا منه قريب، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال: {فَإِنّي قَرِيبٌ} والرابع: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولًا بغير الله فإنه لا يكون داعيًا له فإذا فني عن الكل صار مستغرقًا في معرفة الأحد الحق، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظًا لحقه وطالبًا لنصيبه، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتًا إلى غرض نفسه لم يكن قريبًا من الله تعالى، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله، فكان الدعاء أفضل العبادات.
الحجة الثانية في فضل الدعاء: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
الحجة الثالثة: أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال: {فَلَوْلاَ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] وقال عليه السلام: «لا ينبغي أن يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي» وقال عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة» وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال: «الدعاء هو العبادة» وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فقوله: «الدعاء هو العبادة» معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة، كقوله عليه السلام: «الحج عرفة» أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقال: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن.
والجواب عن الشبهة الأولى: أنها متناقضة، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة، ثم نقول: كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقًا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تتم العبودية، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه؟ فقال: بل شيء قد فرغ منه.
فقالوا: ففيم العمل إذن؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال: «كل ميسر لما خلق له» يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده، إلا أنك تحب أن تعلم هاهنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
والجواب عن الشبهة الثانية: أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
وعن الثالثة: أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
وعن الرابعة: أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه، فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب. اهـ.