فصل: الفصل الثالث: في معنى قوله عليه السلام: «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره...»:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الخامس: وهو الروح القدسي النبوي المنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الصفاء والشرف وكانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه يتنبه بنفسه من غير مدد من خارج، فبالحرىّ أن يعبر عن الصافي البالغ الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء، ولو لم تمسسه نار: إذ من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء؛ وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة. فهذا المثال موافق لهذا القسم.
وإذا كانت هذه الأنوار مترتبة بعضها على بعض: فالحسى هو الأول، وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي، إذ لا يتصور الخيالي إلا موضوعا بعده؛ والفكري والعقلي يكونان بعدهما؛ فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة: فيكون المصباح في زجاجة، والزجاجة في مشكاة.
وإذ كانت هذه كلها أنوارًا بعضها فوق بعض فبالحرىّ أن تكون نورا هذا المثال إنما يتضح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار: فإن النور يراد للهداية. فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة، بل أشد من الظلمة: لأن الظلمة لا تهدي إلى الباطل كما لا تهدي إلى الحق. وعقول الكفار انتكست، وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الإضلال في حقهم. فمثالهم كرجل {في بَحرٍ لُّجِّىٍّ يَغشاهُ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعضَها فَوقَ بَعضٍ} والبحر واللّجىِّ هو الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والأشغال المردية والكدورات المعمية.
والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية والإشتغال باللذات الحسية وقضاء الأوطار الدنيوية حتى إنهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام. وبالحرىّ أن يكون هذا الموج مظلما لأن حب الشيء يعمى ويصم. والموج الثاني موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر. وبالحري أن يكون مظلما لأن الغضب غول العقل. وبالحري أن يكون هو الموج الأعلى: لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتى إذا هاج أذهل عن الشهوات وأغفل عن اللذات المشتهاة. وأما الشهوة فلا تقاوم الغضب الهائج أصلا.
وأما السحاب فهو الاعتقادات الخبيثة، والظنون الكاذبة، والخيالات الفاسدة التي صارت حجبا بين الكافرين وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل: فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس.
وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلا عن البعيدة، ولذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي عليه السلام مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل، فبالحرى أن يعبر عنه بأنه لو أخرج يده لم يكد يراها. وإذا كان منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق بيانه فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن {وَمَن لَّم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نورًا فَما لَهُ مِن نّورٍ} فيكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع به.

.الفصل الثالث: في معنى قوله عليه السلام: «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره...»:

وفي بعض الروايات سبعمائة، وفي بعضها سبعين ألفا: فأقول: إن الله تعالى متجل في ذاته لذاته، ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة؛ وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من حجب بمجرد الظلمة؛ ومنهم من حجب بالنور المحض؛ ومنهم من حجب بنور مقرون بظلمة.
وأصناف هذه الأقسام كثيرة أتحقق كثرتها، ويمكنني أن أتكلف حصرها في سبعين، لكن لا أثق بما يلوح لي من تحديد وحصر، إذ لا أدري أنه المراد بالحديث أم لا. أما الحصر إلى سبعمائة وسبعين ألفا فذلك لا يستقل به إلا القوة النبوية، مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة للتكثير لا للتحديد؛ وقد تجري العادة بذكر عدد ولا يراد به الحصر بل التكثير. والله أعلم بتحقيق ذلك، فذلك خارج عن الوسع. وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم فأقول:
القسم الأول:
وهم المحجوبون بمحض الظلمة، وهم الملحدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وهم الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا وهؤلاء صنفان: صنف تشوف إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله إلى الطبع: والطبع عبارة عن صفة مركوزة في الأجسام حالة فيها؛ وهي مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من نفسها ولا مما يصدر منها؛ وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا.
والصنف الثاني: هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يفرغوا لطلب السبب أيضا، بل عاشوا عيش البهائم، فكان حجبهم نفوسهم الكدرة، وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشد من الهوى والنفس: ولذلك قال الله تعالى: {أَفَرأَيتَ مَن اِتَخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الهوى أبغض إله عبد في الأرض وهؤلاء انقسموا فرقا: فرقة زعمت أن غاية الطلب في الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم وملبس. فهؤلاء عبيد اللذة، يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادات: رضوا لأنفسهم أن يكونوا بمنزلة البهائم بل أخس منها. وأي ظلمة أشد من ذلك فقد حجب هؤلاء بمحض الظلمة.
وفرقة رأت أن غاية السعادات هي الغلبة والاستيلاء والقتل والسبى والأسر، وهذا مذهب الأعراب والأكراد وكثير من الحمقى، وهم محجوبون بظلمة الصفات السبعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصود أعظم اللذات. وهؤلاء قنعوا بأن يكونوا بمنزلة السباع بل أخس.
وفرقة ثالثة رأت أن غاية السعادات كثرة المال واتساع اليسار لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها، وبه يحصل للإنسان الاقتدار على قضاء الأوطار. فهؤلاء همتهم جمع المال واستكثار الضياع والعقار والخيل المسومة والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض. فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب الأخطار في البوادي والأسفار والبحار ويجمع الأموال ويشح بها على نفسه فضلا عن غيره: وهم المرادون بقوله عليه السلام: تعس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير. واي ظلمة أعظم مما يلبس على الإنسان؟ إن الذهب والفضة حجران لا يرادان لأعيانهما. وهي إذا لم يقض بها الأوطار ولم تنفق فهي والحصباء بمثابة، والحصباء بمثابتها.
وفرقة رابعة ترقت عن جهالة هؤلاء وتعاقلت، وزعمت أن أعظم السعادات في اتساع الجاه والصيت وانتشار الذكر وكثرة الأتباع ونفوذ الأمر المطاع. فتراها لا همّ لها إلا المراءاة وعمارة مطارح أبصار الناظرين حتى إن الواحد قد يجوع في بيته ويحتمل الضر ويصرف ماله إلى ثياب يتجمل بها عند خروجه كي لا ينظر إليه بعين الحقارة. وأصناف هؤلاء لا يحصون، وكلهم محجوبون عن الله تعالى بمحض الظلمة، وهي نفوسهم المظلمة.
ولا معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع التنبيه على الأجناس. ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم لا إله إلا الله، لكن ربما حملهم على ذلك خوف أو استظهار بالمسلمين وتجمل بهم أو استمداد من مالهم؛ أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء. فهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور، بل {أَولِياؤُهُمُ الطاغوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النورِ إِلى الظُّلُماتِ}. أما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئته وسرته حسنته فهو خارج عن محض الظلمة وإن كان كثيرا المعصية.
القسم الثاني:
طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ ظلمتهم من الحس، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال، وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة.
الصنف الأول المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائف لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوف إلى معرفة ربه. وأول درجاتهم عبدة الأوثان وآخرهم الثنوية، وبينهما درجات. فالطائفة الأولى عبدة الأوثان: علموا على الجملة أن لهم ربا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة، واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يجاوزوا العالم المحسوس فاتخذوا من أنفس الجواهر كالذهب والفضة والياقوت أشخاصا مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة. فهؤلاء محجوبون بنور العزة والجمال، والعزة والجمال من صفات الله وأنواره، ولكنهم ألصقوها بالأجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك ظلمة الحس، فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحاني العقلي كما سبق.
الطائفة الثانية جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الأشياء، فإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو شجرا أو فرسا أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا. فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس، وهم أدخل في ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص فلا يخصصونه بشيء؛ ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من جهتهم وبأيديهم.
وطائفة ثالثة قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا في ذاته بهيا في صورته، ذا سلطان في نفسه، مهيبا في حضرته، لا يطاق القرب منه، ولكن ينبغي أن يكون محسوسا؛ إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم. ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا. فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء: وكل ذلك من أنوار الله تعالى.
وطائفة رابعة زعموا أن النار نستولى عليها نحن بالإشعال والإطفاء، فهي تحت تصرفنا فلا تصلح للإلهية، بل ما يكون بهذه الصفات ولم يكن تحت تصرفنا ثم نكون نحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفا بالعلو والارتفاع. ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها. فمنهم من عبد الشّعرى، ومنهم من عبد المشتري إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات. فهؤلاء محجوبون بنور العلو والإشراف والإستيلاء، وهي من أنوار الله تعالى. وطائفة خامسة ساعدت هؤلاء في المأخذ ولكن قالت لا ينبغي أن يكون ربنا موسوما بالصغر والكبر بالإضافة إلى الجواهر النورانية، بل ينبغي أن يكون أكبرها، فعبدوا الشمس وقالوا هي أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقرونا بظلمة الحس.
وطائفة سادسة ترقوا عن هؤلاء فقالوا: النور كله لا ينفرد به الشمس بل لغيرها أنوار، ولا ينبغي للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع أنوار العالم وزعموا أنه رب العالم والخيرات كلها منسوبة إليه. ثم رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيها له عن الشر، فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة، وأحالوا العالم إلى النور والظلمة، وربما سموهما يزدان وأهرمن، وهم الثنوية. فيكفيك هذا القدر تنبيها على هذا الصنف، فهم أكثر من ذلك.
الصنف الثاني المحجوبون ببعض الأنوار مقرونا بظلمة الخيال، وهم الذين جاوزوا الحس، وأثبتوا وراء المحسوسات أمرا، لكن لم يمكنهم مجاوزة الخيال، فعبدوا موجودا قاعدا على العرش. وأخسهم رتبة المجسمة ثم أصناف الكرامية بأجمعهم. ولا يمكنني شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة في التكثير. لكن أرفعهم درجة من نفى الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة المخصوصة بجهة فوق: لأن الذي لا ينسب إلى الجهات ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجودا إذ لم يكن متخيلا. ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات.
الصنف الثالث المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حيا، منزها عن الجهات، لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم.
وربما صرّح بعضهم فقال: كلامه صوت وحرف ككلامنا وربما ترقي بعضهم فقال: لا بل هو كحديث نفسنا ولا هو صوت ولا حرف وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلا معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى. ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا. وإنها طلب وقصد مثل قصدنا. وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. فهؤلاء محجوبون بجملة من الأنوار مع ظلمة المقايسات العقلية. فهؤلاء أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة. وبالله التوفيق.
القسم الثالث:
ثم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم: فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم.