فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اُخْتُلِفَ فِي الْبُيُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا سَائِرُ الْبُيُوتِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْفَعُ}: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تُبْنَى، كَمَا قَالَ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}.
قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: تُطَهَّرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي}.
الثَّالِثُ: أَنْ تُعَظَّمَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهَا تُبْنَى فَهُوَ مُتَمَعِّنٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلُ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُطَهَّرُ مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْمَسْجِدَ لِيَنْزَوِيَ مِنْ النَّجَاسَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ».
وَهَذَا فِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهَا؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُرْفَعُ فَالرَّفْعُ حِسًّا كَالْبِنَاءِ، وَحُكْمًا كَالتَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ، وَكَمَا تَطْهُرُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، لِقَوْلِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِنُورِهِ بِالزَّيْتِ الَّذِي يَتَوَقَّدُ مِنْهُ الْمِصْبَاحُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، تَتْمِيمًا لِتَشْرِيفِ الْمَثَلِ بِالْمَثَلِ وَجَلَالِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ جُمَلًا عَظِيمَةً تَرْبُو عَلَى الْمَأْمُولِ فِيهِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {فِي بُيُوتٍ}.
في هذه البيوت قولان:
أحدهما: أنها المساجد، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
الثاني: أنها سائر البيوت، قاله عكرمة.
{أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} أربعة أوجه: أحدها: أن تُبْنَى، قاله مجاهد كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} أي يبني.
الثاني: أنها تطهر من الأنجاس والمعاصي، حكاه ابن عيسى.
الثالث: أن تعظم، قاله الحسن.
الرابع: أن ترفع فيها الحوائج إلى الله.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: يتلى فيها كتابه، قاله ابن عباس.
الثاني: تذكر فيها أسماؤه الحسنى، قاله ابن جرير.
الثالث: توحيده بأن لا إله غيره، قاله الكلبي.
وفيما يعود إليه ذكر البيوت التي أذن الله أن ترفع قولان:
أحدهما: إلى ما تقدم من قوله: كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله.
الثاني: إلى ما بعده من قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} وفي هذا التسبيح قولان:
أحدهما: أنه تنزيه الله.
الثاني: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والضحاك.
{بالْغَدُوِّ وَالآصَالِ} الغدو جمع غَدوة والآصال جمع أصيل وهي العشاء.
{رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
{عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فيه وجهان:
أحدهما: عن ذكره بأسمائه الحسنى.
الثاني: عن الأذان، قاله يحيى بن سلام. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني تقلبها على حجر جهنم.
الثاني: تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها.
الثالث: أن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال.
الرابع: أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر، وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل، والعمى بعد البصر.
الخامس: أن الكافر بعد البعث ينقلب قلبه على الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غيًا فيراه رشدًا.
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين:
أحدهما: أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة.
الثاني: أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة.
{وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها.
الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: بغير جزاء بل يسديه تفضلًا.
الثاني: غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها.
الثالث: غير قليل ولا مضيق.
الرابع: غير ممنون به.
وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا؟ قال: «نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ» قال، وصلى فيها قائمًا وقاعدًا قال: «نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ» قال: ولم يبت لله إلا ساجدًا؟ قال: «نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئًا شَرًّا مِن طَلاَقَةِ لِسَانِهِ». اهـ.

.قال ابن عطية:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
الباء في {بيوت}: تضم وتكسر، واختلف في الفاء من قوله: {في} فقيل هي متعلقة ب {مصباح} [النور: 35] قال أبو حاتم وقيل متعلقة ب {يسبح} المتأخر، فعلى هذا التأويل يوقف على {عليم} [النور: 38] قال الرماني هي متعلقة ب {يوقد} [النور: 35] واختلف الناس في البيوت التي أَرادها بقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح، وقال الحسن بن أَبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتًا من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويؤثر، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به، وكان الزيت منتخبًا مختومًا على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض، وقال عكرمة أراد بيوت الإِيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصل رجال} يقوي أنها المساجد وقوله: {أذن} بمعنى أمر وقضى، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقتران بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى، و{ترفع} قيل معناه تبنى وتعالى، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا من ماله بنى الله له بيتًا في الجنة»، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر {اسمه} تعالى، هو بالصلاة والعبادة قولًا وفعلًا، وقرأ ابن كثير وعاصم {يسبَّح} بفتح الباء المشددة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم {يسبِّح} بكسر الباء، ف {رجال} على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه {يسبح} تقديره يسبحه رجال، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة

أي يبكيه ضارع، و{رجال} على القراءة الثانية مرتفع ب {يسبح} الظاهر، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ {تسبح} بالتاء من فوق، و{الغدو والآصال} قال الضحاك أراد الصبح والظهر، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، وقرأ أبو مجلز {والإيصال} ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وروي ذلك عن ابن مسعود، {وإقام} مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء، فجاء {إقام} بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقامًا، وإنما يستعمل مضافًا، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافًا ألحقت به هاء عوضًا من المحذوف فجاء إقامة، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، و{الزكاة} هنا عند ابن عباس الطاعة لله، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال، واليوم المخوف الذي ذكره تعالى، هو يوم القيامة، واختلف الناس في تقلب {القلوب والأبصار} كيف هو، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عيانًا فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة، فأما القول الأول فليس يقتضي هولًا وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم يوم القيامة وإنما هو بعده.
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هولة ومطلعه، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر:
بل كان قلبك في جناحي طائر

ومنه قول بشار:
كان فؤاده كرة تنزى

ومنه قول الآخر:
إذا حلق النجيد وصلصل الحديد

وهذا كثير.
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.
اللام في قوله: {ليجزيهم} متعلقة بفعل مضمر تقديره فعلوا ذلك ويسروا لذلك ونحو هذا، ويحتمل أن تكون متعلقة ب {يسبح} [النور: 36] وقوله: {أحسن ما عملوا} فيه حذف مضاف تقديره ثواب أحسن ثم وعدهم عز وجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدًا في مزيد، ثم ذكر أنه {يرزق من يشاء} ويخصه بما يشاء من رحمته دون حساب ولا تعديد، وكل تفضل لله فهو {بغير حساب} وكل جزاء على عمل فهو بحساب. اهـ.