فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السابعة عشرة: قوله تعالى: {لاَّ تُلْهِيهِمْ} أي لا تشغلهم.
{تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} خصّ التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة.
فإن قيل: فلمَ كرّر ذكر البيع والتجارةُ تشمله.
قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله: {ولا بيع}.
نظيره قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] قاله الواقدي.
وقال الكلبي: التجار هم الجُلاّب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
{عَن ذِكْرِ الله} اختلف في تأويله؛ فقال عطاء: يعني حضور الصلاة؛ وقاله ابن عباس، وقال: المكتوبة.
وقيل عن الأذان؛ ذكره يحيى بن سلام.
وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى؛ أي يوحدونه ويمجّدونه.
والآية نزلت في أهل الأسواق؛ قاله ابن عمر.
قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسّوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلّوا في جماعة فقال: فيهم نزلت {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ} الآية.
وقال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.
وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أحدهما بياعًا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وَضعًا، وإن كان بالأرض لم يرفعه.
وكان الآخر قَيْنًا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مِطْرقته على السَنْدان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان؛ فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصلاة} هذا يدلّ على أن المراد بقوله: {عن ذكر الله} غير الصلاة؛ لأنه يكون تكرارًا.
يقال: أقام الصلاة إقامةً، والأصل إقوامًا فقلبت حركةُ الواو على القاف فانقلبت الواو ألفًا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتُجْحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها؛ ألا ترى أنك تقول: وَعَد عِدَة، ووَزَن زِنَة، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد حذفت واوًا؛ لأن الأصل وَعَد وِعْدَةً، ووَزَن وِزْنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء:
إنّ الخَلِيط أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ** وأخلفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا

يريد عِدَة، فحذف الهاء لما أضاف.
وروي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نُجُب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأذِمّتها من الزبرجد الأخضر وقُوّامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعُمّارها متعلقون بها فتجوز عَرَصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقرَّبون أو أنبياء مرسلون فينادَى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم».
وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب، شرُّ أهلِ ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود؛ يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَإِيتَاءِ الزكاة} قيل: الزكاة المفروضة؛ قاله الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص؛ إذ ليس لكل مؤمن مال.
{يَخَافُونَ يَوْمًا} يعني يوم القيامة.
{تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} يعني من هوله وحذر الهلاك.
والتقلّب التحوّل، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم.
فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج.
وأما تقلب الأبصار فالزَّرَق بعد الكَحَل والعَمَى بعد البصر.
وقيل: تتقلّب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أيّ ناحية يعطَوْن كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم.
وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين؛ وذلك مثل قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]؛ فما كان يراه في الدنيا غَيًّا يراه رُشْدًا؛ إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة.
وقيل: تقلّب على جمر جهنم؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [الأحزاب: 66]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110].
في قول من جعل المعنى تقلّبها على لهب النار.
وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتُنْضِجها مرة.
وقيل إن تقلب القلوب وَجِيبها، وتقلّب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين: أحدهما: أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة.
الثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر؛ فكانت صغائرهم مغفورة.
{وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها.
الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء.
{والله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه؛ إذ لا نهاية لعطائه.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قُبَاء، فحضر عبد الله بن رَوَاحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: «نعم يا ابن رواحة» قال: وصلّى فيها قائمًا وقاعدًا؟ قال: «نعم يا ابن رواحة» قال: ولم يَبِت لله إلا ساجدًا؟ قال: «نعم يا ابن رواحة كفَّ عن السّجْع فما أعطى عبد شيئًا شرًا من طلاقة في لسانه» ذكره الماوَرْدي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{في بيوت} متعلق بيوقد قاله الرماني، أو في موضع الصفة لقوله: {كمشكاة} أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي، وتبعه الزمخشري قال {كمشكاة} في بعض بيوت الله وهي المساجد.
وقال {مثل نوره} كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى.
وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح {في بيوت} قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله: {عليم}.
وقيل: {في بيوت} مستأنف والعامل فيه {يسبح} حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري.
فقال: وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال: أو بما بعده وهو {يسبح} أي {يسبح له} رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله: {في تسع آيات} أي سبحوا في بيوت انتهى.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله: {عليم} والذي اختاره أن يتعلق {في بيوت} بقوله: {يسبح} وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث.
ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله: {والذين كفروا} وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها، فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر.
والظاهر أن قوله: {في بيوت} أريد به مدلوله من الجمعية.
وقال الحسن: أريد به بيت المقدس، وسمى بيوتًا من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره، فكان أضوأ بيوت الأرض.
والظاهر أن {في بيوت} مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم.
وقال مجاهد: بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس والحسن أيضًا ومجاهد: هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح.
وقيل: الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء.
وقيل: بيوت الأنبياء.
ويقوي أنها المساجد قوله: {يسبح له فيها بالغدو والآصال} وإذنه تعالى وأمره بأن {ترفع} أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك.
وقال ابن عباس ومجاهد: تبنى وتعلى من قوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} وقيل: {ترفع} تطهر من الأنجاس والمعاصي.
وقيل: {ترفع} أي ترفع فيها الحوائج إلى الله.
وقيل: {ترفع} الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن.
{ويذكر فيها اسمه} ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل.
وعن ابن عباس: توحيده وهو لا إله إلاّ الله.
وعنه: يتلى فيها كتابه.
وقيل: أسماؤه الحسنى.
وقيل: يصلى فيها.
وقرأ الجمهور {يُسبح} بكسر الباء وبالياء من تحت، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة.
وقرأ أبو جعفر: تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء.
وقال الزمخشري: ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة.
والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى.
ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه {تسبح} أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا {ليجزي قومًا} في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء.
وقرأ أبو مجلز: والإيصال وتقدم نظيره وارتفع {رجال} على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي {يسبح} أو يسبح له رجال.
واختلف في اقتياس هذا، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال.
وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما.
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع} وجهين: أحدهما: أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره ** أي لا منار له فيهتدى به

والثاني: أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم، والظاهر مغايرة التجارة والبيع، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع، أو يراد تجارة الجلب ويقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق، ويحتمل أن يكون {ولا بيع} من ذكر خاص بعد عام، لأن التجارة هي البيع والشراء طلبًا للربح.