فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح لأن هذا يقين وذاك مطنون.
قال الزمخشري: التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا... انتهى.
وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على {وإقام الصلاة} في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا

وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه.
{يخافون يومًا} هو يوم القيامة، والظاهر أن معنى {تتقلب} تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} فتقلبها هو قلقها واضطرابها، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك.
وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله:
بل كان قلبك في جناحي طائر

ويبعد قول من قال {تتقلب} على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده.
وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعًا عليها، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميًا والقول الأول أبلغ في التهويل.
وقرأ ابن محيصن: تُقلب بإدغام التاء في التاء.
واللام في {ليجزيهم} متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك {ليجزيهم} ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر.
وقال الزمخشري: والمعنى يسبحون ويخافون {ليجزيهم} انتهى.
والظاهر أن قوله: {يخافون} صفة لرجال كما أن {لا تلهيهم} كذلك.
{أحسن} هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا، أو {أحسن} جزاء ما عملوا.
{ويزيدهم من فضله} على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدًا في مزيد.
وقال الزمخشري: {ليجزيهم} ثوابهم مضاعفًا {ويزيدهم} على الثواب تفضيلًا وكذلك معنى قوله: {الحسنى} وزيادة المثوبة الحسنى، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض.
{والله يرزق من يشاء} ما يتفضل به {بغير حساب} فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى.
وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}.
قال ابن عباس وغيره: هي المساجد المخصوصةُ بعبادة اللّه التي من عادتها أنْ تُنَوَّرَ بهذا النوع من المصابيح. وقوله: {أَذِنَ الله}: بمعنى: أمر وقضى، و{تُرْفَعَ} قيل: معناه تُبْنَى وتُعَلَّى؛ قاله مجاهد وغيره؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127].
وقال الحسن: معناه تُعظَّم ويُرْفَعُ شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولًا وفعلًا، و{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} أي: في المساجد، {بالغدو والأصال} قال ابن عباس: أراد ركعتي الضُّحَى. والعصر، وإنَّ ركعتي الضحى لفي كتاب اللّه وما يغوص عليها إلاَّ غَوَّاصٌ؛ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمرَ اللّه تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكرِ اللّه شيءٌ من أمور الدنيا.
قلت: وعن عمر- رضي اللّه عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحَدٍ، يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، ويُسْمعُهُمُ الدَّاعِي، فَيْنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ لَمِنَ الْكَرَمُ اليَوْمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِع} [السجدة: 16]؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُواْ {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} إلى آخر الآية، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ لَمِنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ رَبَّهمْ» مختصرًا رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وله طرق عن أَبي إسحاقَ، انتهى من السلاح، ورواه أيضًا ابن المبارك من طريق ابن عباس قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نادى مُنَادٍ: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ منْ أَصْحَابُ الكَرَم، لِيَقُمْ الحَامِدُونَ لِلَّهِ تعالى على كُلِّ حَالٍ، فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً: سَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تتجافى عَنِ المَضَاجِعِ؛ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ؛ قَالَ: فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، ثُمَّ يُنَادِي ثَالِثَةً: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمَ الَّذِينَ كَانَتْ: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَاء الزكاة يخافون يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} فيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجَنَّة» انتهى من التذكرة. والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة للَّه.
وقال الحسن: هي الزكاةُ المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة، ومعنى الآية: إنَّ ذلك اليوم لِشِدَّةِ هوله القلوبُ والأبصارُ فيه مضطربةٌ قِلِقَةٌ متقلبة.
قلت: ومن «الكلم الفارقية»: سعادة القلبِ إقباله على مُقَلِّبِهِ والعالِم بحال مَآله ومُنْقَلَبهِ، القلوبُ بحارٌ جواهرُها المعارفُ، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غَوَّاصُ بحر الصُّوَرِ يغوصُ بصورته في طلب مكسبه، والعارِفُ يغوص بمعنى قلبه في بحار غَيْبِ رَبِّهِ، فيلتقط جواهرَ الحكمة ودُرَرَ الدِّرَايَةِ قلوبُ العارفين، كالبحار تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهِرُ المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده أَمَّا مَنْ بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى.
قلت: فإنْ أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلًا على طاعة مولاك؛ فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أَتَى اللّه بقلب سليم.
قال الواحِدِيُّ: تتقلب فيه القلوبُ بين الطمع في النجاة والخوفِ من الهلاك، والأبصارُ تتقلَّبُ في أيِّ ناحية يؤخذ بهم أذاتَ اليمين أم ذاتَ الشمال، ومن أيِّ جهة يُؤتون كتبَهم، انتهى. الجواهر الحسان ج 3 ص.
وقال أبو السعود:
{فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه}.
لمَّا ذُكر شأنُ القرآن الكريم في بيانه للشَّرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتِّبةِ عليها من الثَّوابِ والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالِها وأُشير إلى كونِه في غاية ما يكونُ من التَّوضيحِ والإظهار حيثُ مُثِّل بما فُصِّل من نور المشكاة، وأُشير إلى أنَّ ذلك النُّورَ مع كونِه في أقصى مراتبِ الظُّهور إنَّما يهتدي بهداه من تعلَّقتْ مشيئةُ الله تعالى بهدايته دُونَ مَن عداه عقَّب ذلك بذكر الفريقينِ وتصوير بعض أعمالهم المُعربةِ عن كيفيَّةِ حالهم في الاهتداءِ وعدمه. والمرادُ بالبيوتِ المساجدُ كلِّها حسبما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وقيل: هي المساجدُ التي بناها نبيٌّ من أنبياء الله تعالى: الكعبةُ التي بناها إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلامُ وبيتُ المقدسِ الذي بناه داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ ومسجدُ المدينةِ ومسجدُ قُباءَ اللذانِ بناهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بالإذنِ في رفعها الأمرُ ببنائها رفيعةً لا كسائر البيوتِ وقيل: هو الأمر برفعِ مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكونُ عطفُ الذِّكرِ عليه من قبيل العطفِ التفسيريِّ. وأيًّا ما كان ففي التَّعبير عنه بالإذن تلويحٌ بأنَّ اللائقَ بحال المأمور أنْ يكونَ متوجِّهًا إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناويًا لتحقيقِه كأنَّه مستأذنٌ في ذلك فيقع الأمرُ به موقعَ الإذن فيه. والمرادُ بذكر اسمه تعالى ما يعمُّ جميعَ أذكارِه تعالى. وكلمةُ في متعلِّقةٌ بقوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ} وقولُه تعالى: {فِيهَا} تكريرٌ لها للتَّأكيد والتَّذكيرِ لما بينهما من الفاصلةِ وللإيذانِ بأنَّ التَّقديمَ للاهتمام لا لقصر التَّسبيحِ على الوقوع في البيوت فقط. وأصلُ التَّسبيحِ التَّنزيهُ والتَّقديسُ، يُستعملُ باللامِ وبدونِها أيضًا كما في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى} قالوا: أُريد به الصَّلواتُ المفروضةُ كما يُنبىء عنه تعيينُ الأوقاتِ بقوله تعالى: {بالغدو والأصال} أي بالغَدَواتِ والعَشَايا على أنَّ الغُدوَّ إمَّا جمعُ غداةٍ كقُنيَ في جمع قَنَاةٍ كما قيل. أو مصدرٌ أُطلق على الوقت حسبما يُشعر به اقترانُه بالآصالِ وهو جمع أَصيلٍ وهو العَشِيُّ وهو شامل لأوقاتِ ما عدا صلاةَ الفجرِ المؤدَّاةَ بالغداةِ، ويجوزُ أنْ يرادَ به نفسُ التَّنزيه على أنَّه عبارة عمَّا يقعُ منه في أثناء الصَّلواتِ وأوقاتها لزيادةِ شرفِه وإنافتِه على سائر أفراده أو عمَّا يقعُ في جميع الأوقاتِ. وإفرادُ طَرَفي النَّهارِ بالذِّكرِ لقيامِهما مقامَ كلِّها لكونِهما العمدةَ فيها بكونِهما مشهورينَ وكونِهما أشهرَ ما يقعُ فيه المباشرةُ للأعمال والاشتغالُ بالأشغالِ. وقرئ والإيصالِ وهو الدُّخولُ في الأصيلِ.
وقولُه تعالى: {رِجَالٌ} فاعلُ يسبِّح، وتأخيرُه عن الظُّروفِ لما مرَّ مرارًا من الاعتناءِ بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في وصفه نوع طُولٍ فيُخلُّ تقديمُه بحسن الانتظام. وقرئ يُسبِّح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظُّروف. ورجالٌ مرفوعٌ بما ينبىءُ عنه حكايةُ الفعلِ من غير تسميةِ الفاعل على طريقة قوله:
ليُبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ

كأنه قيل: مَنْ يُسبِّح له؟ فقيل: يُسبِّح له رجالٌ. وقرئ تُسبِّح بتأنيثِ الفعلِ مبنيًّا للفاعلِ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ قد يُعامل معاملةَ المؤنَّثِ ومبنيًا للمفعول على أنْ يُسندَ إلى أوقات العُدوِّ والآصالِ بزيادة الباءِ وتجعلُ الأوقاتُ مسبِّحةً مع كونِها فيها أو يُسند إلى ضميرِ التَّسبيحةِ أي تُسبَّح له التَّسبيحةُ على المجازِ المسوِّغ لإسناده إلى الوقتينِ كما خرَّجُوا قراءة أبي جَعفرٍ ليُجزَى قومًا أي ليُجزَى الجزاءُ قَوْمًا بل هذا أولى من ذلك إذْ ليس هنا مفعولٌ صريحٌ {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} صفةٌ لرجالٌ مؤكِّدةٌ لما أفادَه التَّنكيرُ من الفخامةِ مفيدةٌ لكمال تبتُّلِهم إلى الله تعالى واتغراقهم فيما حُكي عنهم من التَّسبيحِ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم كائنًا ما كان وتخصيصُ التِّجارةِ بالذِّكرِ لكونِها أقوى الصَّوارفِ عندهم وأشهرَها أي لا يشغلُهم نوعٌ من أنواعِ التِّجارةِ {وَلاَ بَيْعٌ} أي ولا فردٌ من أفراد البياعاتِ وإنْ كان في غايةِ الرِّبحِ. وإفرادُه بالذِّكرِ مع اندراجِه تحت التِّجارة للإيذانِ بإنافتِه على سائرِ أنواعِها لأنَّ ربحَهُ متيقَّنٌ ناجزٌ وربحُ ما عداه متوقَّعٌ في ثاني الحال عند البيع فلم يلزمْ من نفيِ إلهاءِ ما عداه نفيُ إلهائِه ولذلك كُرِّرت كلمةُ لا لتذكيرِ النَّفيِ وتأكيدِه وقد نُقل عن الواقديِّ أنَّ المرادَ بالتِّجارة هو الشِّراءُ لأنَّه أصلُها ومبدؤها. وقيل: هو الجَلَبُ لأنَّه الغالبُ فيها ومنه يُقال: تَجَر في كَذا أي جَلَبه.
{عَن ذِكْرِ الله} بالتَّسبيحِ والتَّحميدِ {وإِقَامِ الصلاة} أي إقامتِها لمواقيتها من غير تأخيرٍ وقد أُسقطتْ التَّاءُ المُعوِّضةُ عن العينِ السَّاقطةِ بالإعلال وعُوِّض عنها الإضافةُ كما في قوله:
وَأَخْلفُوك عِدَ الأَمْرِ الذي وَعدُوا

أي عدةَ الأمرِ {وَإِيتَاءِ الزكاة} أي المال الذي فُرض إخراجُه للمستحقِّين، وإيرادُه هاهنا وإنْ لم يكن ممَّا يُفعل في البيوت لكونِه قرينةً لا تُفارق إقامةَ الصَّلاةِ في عامَّة المواضع مع ما فيه من التَّنبيه على أنَّ محاسنَ أعمالِهم غيرُ منحصرةٍ فيما يقعُ في المساجدِ وكذلك قوله تعالى: {يَخَافُونَ} الخ، فإنه صفةٌ ثانيةٌ لرجالٌ أو حالٌ من مفعول لا تُلهيهم، وأيًّا ما كان فليس خوفُهم مقصُورًا على كونِهم في المساجد وقوله تعالى: {يَوْمًا} مفعولُ ليخافون لا ظرفٌ له. وقولُه تعالى: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} صفةٌ ليومًا أي تضطربُ وتتغيرُ في أنفسها من الهول والفزعِ وتشخصُ كما في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} أو تتغيرُ أحوالُها وتتقلَّب فتتفقّه القلوبُ بعد أن كانتْ مطبوعًا عليها وتُبصر الأبصارُ بعد أنْ كانت عمياءَ أو تتقلَّب القلوبُ بين توقُّعِ النَّجاةِ وخوفِ الهلاكِ والإبصار من أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ويُؤتى كتابُهم.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي يفعلُون ما يفعلُون من المُداومة على التَّسبيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم حسبما وعد لهم بمقابلةِ حسنةٍ واحدةٍ عشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يتفضَّلُ عليهم بأشياءَ لم تُوعد لهم بخصوصيَّاتِها أو بمقاديرِها ولم تخطُر ببالِهم كيفيَّاتُها ولا كميَّاتُها بل إنَّما وُعدت بطريقِ الإجمالِ في مثل قوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حكايةً عنه عز وجل: «أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ» وغيرِ ذلك من المواعيدِ الكريمةِ التي مِن جُملتِها قولُه تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فإنَّه تذييلٌ مقرِّرٌ للزيادة ووعدٌ كريم بأنَّه تعالى يُعطيهم غيرَ أجزيةِ أعمالِهم من الخيرات ما لا يفي من الحساب وأما عدمُ سبقِ الوعدَ بالزِّيادة ولو إجمالًا وعدمُ خُطورِها ببالِهم ولو بوجهٍ ما فيأباهُ نظمُها في سلك الغايةِ. والموصولُ عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الجميلةُ كأنَّه قيل: والله يرزقُهم بغير حسابٍ، ووضعه موضعَ ضميرهم للتَّنبيه بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ مناطَ الرِّزقِ المذكُور محضُ مشيئتِه تعالى لا أعمالُهم المحكيَّةُ كما أنَّها المناطُ لما سبقَ من الهداية لنوره تعالى لا لتظاهر الأسباب وللإيذان بأنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يرزقَهم كما أنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يهديَهم لنُوره حسبَما يُعرب عنه ما فُصِّل من أعمالهم الحسنةِ فإنَّ جميعَ ما ذُكر من الذِّكرِ والتَّسبيحِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وخوفِ اليوم الآخرِ وأهوالِه ورجاءِ الثَّوابِ مقتبسٌ من القُرآن الكريم الذي هو المعنيُّ بالنُّور وبه يتمُّ بيانُ أحوالِ مَن اهتدى بهُداه على أوضحِ وجهٍ وأجلاه هذا، وقد قيل: قوله تعالى: {فِى بُيُوتٍ} الخ، من تتمة التَّمثيلِ وكلمةُ في متعلَّقةٌ بمحذوفٍ هي صفة لمشكاةٍ أي كائنةٍ في بيوتٍ، وقيل: لمصباح، وقيل: لزجاجة، وقيل: متعلِّقةٌ بيُوقَد والكلُّ مما لا يليقُ بشأن التَّنزيلِ الجليلِ كيف لا وأنَّ ما بعد قولِه تعالى: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} على ما هو الحقُّ أو ما بعد قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} على ما قيل إلى قولِه تعالى: {بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} كلامٌ متعلِّقٌ بالمُمَثَّل قطعًا فتوسيطُه بين أجزاءِ التَّمثيل مع كونِه من قبيل الفصل بين الشَّجر ولحائِه بالأجنبيِّ يؤدِّي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتَّمثيلِ المهديِّينَ بنور القُرآن الكريم بطريق الاستتباعِ والاستطرادِ مع كون بيانِ أضدادِهم مقصودًا بالذَّاتِ، ومثلُ هذا ممَّا لا عهدَ به في كلام النَّاسِ فضلًا أنْ يُحملَ عليه الكلامُ المعجِزُ. اهـ.