فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
لما بيّن سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال، فقال {الله نُورُ السموات والأرض} وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، و{نور السموات والأرض} خبره، إما على حذف مضاف، أي: ذو نور السموات، والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله، وظهور عدله، وبسطه أحكامه، كما يقال: فلان نور البلد، وقمر الزمن، وشمس العصر، ومنه قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب ** إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب

وقول الآخر:
هلا قصدت من البلاد لمفضل ** قمر القبائل خالد بن يزيد

ومن ذلك قول الشاعر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ** فقد سار منها نورها وجمالها

وقول الآخر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى ** نورًا ومن فلق الصباح عمودا

ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء، ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنوّرة، وأوجد أنوارها، ونوّرها، ويدلّ على هذا المعنى قراءة زيد بن عليّ، وأبي جعفر، وعبد العزيز المكي {الله نُورُ السموات والأرض} على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى الله، والسماوات مفعوله؛ فمعنى {الله نُورُ السموات والأرض} إنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما، وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما، كما يقال: الملك نوّر البلد، هكذا قال الحسن، ومجاهد، والأزهري، والضحاك، والقرظي، وابن عرفة، وابن جرير، وغيرهم، ومثله قول الشاعر:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة ** ونبت لمن يرجو نداك وريف

وقال هشام الجواليقي، وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} مبتدأ، وخبره: {كَمِشْكَاةٍ} أي: صفة نوره الفائض عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوّة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم.
ووجه تخصيص المشكاة: أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح، أو غيره، وأصل المشكاة: الوعاء يجعل فيه الشيء.
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.
وقال مجاهد: هي القنديل.
والأوّل أولى، ومنه قول الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في جحر... ثم قال {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو السراج {المصباح في زُجَاجَةٍ} قال الزجاج: النور في الزجاج، وضوء النار أبين منه في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور.
ثم وصف الزجاجة، فقال: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} أي: منسوب إلى الدرّ لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدرّ.
وقال الضحاك: الكوكب الدرّي الزهرة.
قرأ أبو عمرو {دِريّ} بكسر الدال.
قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابيًا يقول: إلاّ كأنه كوكب درّيّ بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت.
وقرأ حمزة بضم الدال مهموزًا، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد.
وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب.
والدّراري: هي المشهورة من الكواكب كالمشتري، والزهري، والمريخ، وما يضاهيها من الثوابت.
ثم وصف المصباح بقوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} و{من} هذه هي الابتدائية: أي: ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل: هو على تقدير مضاف، أي: يوقد من زيت شجرة مباركة، والمباركة: الكثيرة المنافع.
وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب، يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو ** وليت يقولها المحزون

بورك الميت الغريب كما ** بورك نبع الرمان والزيتون

قيل: ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام، ودهان، ودباغ، ووقود، وليس فيها شيء إلاّ وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}.
وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة، وقتادة، وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت.
والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت.
وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها، ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا، فثمرها أجود.
وقيل: إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس.
قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود.
ورجح القول الأوّل الفراء، والزجاج.
وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية.
قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله: {زَيْتُونَةٍ} بدل من قوله: {شَجَرَةٍ}.
قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقيّ، ولا غربيّ، والشام هي الأرض المباركة.
وقد قرئ {توقد} بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون.
وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص: {يُوقَدُ} بالتحتية مضمومة، وتخفيف القاف، وضم الدال.
وقرأ الحسن، والسلمي، وأبو عمرو بن العلاء، وأبو جعفر {توقد} بالفوقية مفتوحة، وفتح الواو، وتشديد القاف، وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح.
قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعًا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له.
وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلاّ أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد.
ثم وصف الزيتونة بوصف آخر، فقال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قرأ الجمهور {تمسسه} بالفوقية، لأن النار مؤنثة.
قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلاّ هذه القراءة.
وحكى أبو حاتم: أن السدّي روى عن أبي مالك، عن ابن عباس: أنه قرأ {يمسسه} بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي.
والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلًا، وارتفاع {نُورٍ} على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو نور، و{على نُورٍ} متعلق بمحذوف، هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور.
قال مجاهد: والمراد النار على الزيت.
وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور.
وقال السديّ: نور الإيمان، ونور القرآن {يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} من عباده أي: هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرّد الدلالة {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} أي: يبين الأشياء بأشباهها، ونظائرها تقريبًا لها إلى الأفهام وتسهيلًا لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس، وتصويره بصورته يزيده وضوحًا وبيانًا {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولًا كان أو محسوسًا، ظاهرًا، أو باطنًا.
واختلف في قوله: {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} بما هو متعلق؛ فقيل: متعلق بما قبله أي: كمشكاة في بعض بيوت الله، وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل: متعلق بمصباح.
وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح، والزجاجة، والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وقيل: متعلق بتوقد أي: توقد في بيوت، وقد قيل: متعلق بما بعده، وهو {يسبح} أي: يسبح له رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قوله: {فِيهَا} تكريرًا كقولك، زيد في الدار جالس فيها.
وقيل: إنه منفصل عما قبله، كأنه قال الله: في بيوت أذن الله أن ترفع.
قال الحكيم الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه.
وقد قيل: على تقدير تعلقه بمشكاة، أو بمصباح، أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح، والمشكاة، وجمع البيوت؟ ولا تكون المشكاة الواحدة، ولا المصباح الواحد إلاّ في بيت واحد.
وأجيب: بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوّله بالتوحيد، ويختم بالجمع كقوله سبحانه: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] ونحوه.
وقيل: معنى {في بيوت}: في كلّ واحد من البيوت، فكأنه قال: في كلّ بيت، أو في كلّ واحد من البيوت.
واختلف الناس في البيوت، على أقوال: الأوّل: أنها المساجد، وهو قول مجاهد، والحسن، وغيرهما.
الثاني: أن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن.
الثالث: أنها بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، روي عن مجاهد.
الرابع: هي البيوت كلها، قاله عكرمة.
الخامس: أنها المساجد الأربعة الكعبة، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد.