فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ}.
أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر:
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ** كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق

والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء، وقيل: إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار، والقاع ما انبسط من الأرض واستوى.
{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يعني العطشان يحسب السراب ماءً.
{حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطًا.
{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} فيه وجهان:
أحدهما: وجد أمر الله عند حشره.
الثاني: وجد الله عند عرضه.
{فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} يحتمل وجهين:
أحدهما: ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره.
والثاني: وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معًا محمولًا على العمل، كما قال امرؤ القيس:
فوّلَّى مُدْبِرًا وَأيْقَنَ ** أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا

{وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: لأن حسابه آت وكل آت سريع.
الثاني: لأنه يحاسب جميع الخلق في وقت سريع.
قيل إن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين فكفر في الإِسلام.
قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} الظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل.
وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله، حكاه ابن عيسى.
الثاني: أنه البحر الكثير الموج، قاله الكلبي.
الثالث: أنه البحر العميق، وهذا قول قتادة، ولجة البحر وسطه، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» يعني إذا توسطه.
{يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يغشاه موج من فوق الموج ريح، من فوق الريح سحاب فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب.
الثاني: معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضًا حتى كأنه بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين:
أحدهما: أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها.
الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه.
{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل.
الثاني: يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض.
{إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فيه وجهان:
أحدهما: معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها، حكاه ابن عيسى.
الثاني: لم يرها ولم يكد، قاله الزجاج، وهو معنى قول الحسن.
وفي قوله لم يكد وجهان:
أحدهما: لم يطمع أن يراها.
الثاني: لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام.
{ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} فيه وجهان:
أحدهما: ومن لم يجعل الله له سبيلًا إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها حكاه ابن عيسى.
الثاني: ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه، قاله الزجاج.
وقال بعض أصحاب الخواطر وجهًا ثالثًا: ومن لم يجعل الله نورًا له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة.
ويحتمل رابعًا: ومن لم يجعل الله له قبولًا في القلوب لم تقبله القلوب.
وهذا المثل ضربه الله للكافر، فالظمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي، والبحر اللجي قلب الكافر، يغشاه من فوقه عذاب الدنيا، فوقه عذاب الآخرة. اهـ.

.قال ابن عطية:

ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين: الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله: {أو كظلمات} والسراب ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنسبطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئًا فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئًا، والقيعة جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مانع زكاة الأنعام: «فيبطح لها بقاع قرقر»، وقيل القيعة مفرد، وهو بمعنى القاع، وقرأ مسلم بن محارب {بقيعات} وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف {الظمان} بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة، وقوله: {حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا} يريد {شيئًا} نافعًا في العطش، أو يريد {شيئًا} موجودًا على العموم ويريد ب {جاءه} جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في {جاءه} على السراب، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعًا {حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا} ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله: {أعمالهم} ويكون تمام المثل في قوله: {ماء} ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به، وقوله: {ووجد الله عنده} أي بالمجازاة، والضمير في {عنده} عائد على العمل، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه.
وقوله تعالى: {أو كظلمات} عطف على قوله: {كسراب} وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه، واللجي معناه ذو اللجة، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته، والموج هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة، والسحاب هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ، وقرأ سفيان بن حسين {أوَ كظلمات} بفتح الواو، وقرأ جمهور السبعة {سحابٌ} بالرفع والتنوين {ظلمات} بالرفع، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل {سحابٌ} بالرفع والتنوين {ظلمات} بالخفض على البدل من {ظلمات} الأول، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير {سحابُ} بغير تنوين على الإضافة على الظلماتٍ، وقوله: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} لفظ يقتضي مبالغة الظلمة، واختلف الناس في هذه اللفظ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة، فقالت فرقة لم يرها جملة وذلك أن كاد معناها قارب فكأنه قال {إذا أخرج يده} لم يقارب رؤيتها، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة، وقالت فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن كاد إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل عَ وهذا لازم متى كان حرف النفي بعد كاد داخلًا على الفعل الذي بعدها، تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع، وتقول كاد النعام يطير، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له، فإذ كان حرف النفي مع كاد فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه، تقول المفلوج لا يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون، وتقول رجل متكلم لا يكاد يسكن، فهذا كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادرًا ومنه قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] نفي مع كاد تضمن وجوب الذبح، وقوله في هذه الآية {لم يكد يراها} نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين، نفي الرؤية، ولهذا ونحوه قال سيبويه رحمه الله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف، وقوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} قالت فرقة يريد في الدنيا، أي من لم يهده الله لم يهتد، وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له، والأول أبين وأليق بلفظ الآية، وأيضًا فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا وهدى، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

ثم ضرب الله مثلًا للكفار فقال: {والذين كفروا أعمالهُم كسراب}.
قال ابن قتيبة: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل: ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو يرفع كل شيء، والقِيعة والقاع واحد.
وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: {بِقِيعات}.
وقال الزجاج: القيعة: جمع قاع، مثل جارٍ وجيرة، والقيعة والقاع: ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماءً يجري، وذلك هو السراب، والآل مثل السراب، إِلا أنه يرتفع وقت الضحى- كالماء- بين السماء والأرض، يحسبه الظمآن وهو الشديد العطش ماءً، حتى إِذا جاء إٍلى موضع السراب رأى أرضًا لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله- كظن الذي يظن السراب ماءً- وعملُه قد حبط.
قوله تعالى: {ووجد اللّهَ عنده} أي: قَدِم على الله {فوفّاه حسابَه} أي: جازاه بعمله؛ وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر.
قوله تعالى: {والله سريع الحساب} مفسَّر في [البقرة: 202].
قوله تعالى: {أو كظلمات} في هذا المثل قولان:
أحدهما: أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج.
والثاني: أنه مَثَل لقلب الكافر في أنه لا يَعْقِل ولا يُبْصِر، قاله الفراء.
فأما اللُّجِّيّ، فهو العظيم اللُّجَّة، وهو العميق {يغشاه} أي: يعلو ذلك البحرَ {موجٌ من فوقه} أي: من فوق الموج موج، والمعنى: يتبع الموج موج، حتى كان بعضه فوق بعض، {من فوقه} أي: من فوق ذلك الموج {سحاب}.
ثم ابتدأ فقال: {ظلماتٌ} يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب.
وقرأ ابن كثير، وابن محيصن: {سحابُ ظلماتٍ} مضافًا {إِذا أخرج يده} يعني: إِذا أخرجها مُخرِجٌ، {لم يكد يراها} فيه قولان:
أحدهما: أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج.
قال: لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكفّ؛ وكذلك قال ابن الأنباري: معناه: لم يرها البتَّة، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن {يَكَد} زائدة للتوكيد، بمنزلة ما في قوله: {عمَّا قليلٍ ليُصْبِحُنَّ نادمِين} [المؤمنون: 40].
والثاني: أنه لم يرها إِلا بعد الجهد، قاله المبرِّد.
قال الفراء: وهذا كما تقول: ما كدت أبلغ إِليك، وقد بلغتَ، قال الفراء: وهذا وجه العربية.
فصل:
فأما وجه المَثَل، فقال المفسرون: لمّا ضَرب اللّهُ للمؤمن مَثَلًا بالنُّور، ضَرب للكافر هذا المثل بالظلمات؛ والمعنى: أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشدٍ.
وقيل: الظُّلمات: ظُلمة الشِّرك وظُلمة المعاصي.
وقال بعضهم: ضربَ الظلمات مثلًا لعمله، والبحر اللُّجِّيّ لقلبه، والموج لِما يغشى قلبه من الشِّرك والجهل والحيرة، والسحاب للرَّيْن، والخَتْم على قلبه، فكلامه ظُلمة، وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة، ومخرجه ظُلمة، ومصيره إِلى الظُّلمات يوم القيامة.
قوله تعالى: {ومن لم يَجْعَلِ اللّهُ له نُورًا} فيه قولان:
أحدهما: دِينًا وإِيمانًا، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: هداية، قاله الزجاج. اهـ.