فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض، وقوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب {ظلمات} خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي متكاثفة متراكمة، وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] بيان لغايةّ قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده.
وأجاز الحوفي أن يكون {ظلمات} مبتدأ خبره قوله تعالى: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}.
وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات كثيرة أو عظيمة وهو تكلف.
وأجاز أيضًا أن يكون {بَعْضَهَا} بدلًا من {ظلمات}.
وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الأخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير أخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة.
وقرأ قنبل {ظلمات} بالجر على أنه بدل من {ظلمات} الأولى لا تأكيد لها.
وجملة {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} في موضع الصفة له.
وقرأ البزي {سَحَابٌ ظلمات} بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة.
{إِذَا أَخْرَجَ} أي من ابتلى بها، واضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة.
وكذا تقدير ضمير يرجع إلى {ظلمات} واحتيج إليه لأن جملة {إِذَا أَخْرَجَ} الخ في موضع الصفة لظلمات ولابد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه.
وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد «لا يشرب الخمر وهو مؤمن» أي إذا أخرج المخرج فيها {يَدَهُ} وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلًا عن أن يراها.
وزعم ابن الأنباري زيادة {يَكَدْ}.
وزعم الفراء والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال: ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ** رسيس الهوى من حب مية يبرح

وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بلم يكن أو لم أجد، والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كان يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا.
وقد علم أن كان موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالًا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا} [البقرة: 71] الخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلًا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت، وقد ذكر أن لم يكذ فيهما جواب {إِذَا} فيكون مستقبلًا وإذا قلت: إذا خرجت لم أخرج فقد نفيت خروجًا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان.
وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الاعجاز، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي.
وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول: إن مراد من قال: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال: إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فيكف خفى ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال: فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى.
ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفي كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما عير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أولا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئى أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت بانطباع شبح المرئى في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للاشراقيين منهم.
واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع، واختار الملأ صدرا أنها بانشاء صورة مماثلة للمرئى بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل.
ونفي ابن سينا ذلك وقال: لا يمكن أن تكون الظلمة شرطًا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقًا، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف، فإما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى، ويمكن أن يقال: إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}.
اعتراض تذييلي جىء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنوره في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلًا فيها، وقيل: معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة.
وقيل: كلا الأمرين في الآخرة، والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم.
والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض، ومنهم من اعتبر ذلك فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجى صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
وقيل: الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير الخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة.
والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} عطف على ما ينساق إليه ما قبله. كأنه قيل: الذين آمنوا أعمالهم حالًا ومآلًا كما وصف، والذين كفروا: {أَعْمَالُهُمْ} أي: التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب: {كَسَرَابٍ} وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس، وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري: {بِقِيعَةٍ} بمعنى القاع، وهو المنبسط من الأرض. أو جمع قاع كجيرة في جار: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي: لا محققًا ولا متوهمًا. كما كان يراه من قبل، فضلًا عن وجدانه ماء، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل. وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: وجد عقاب الله وجزائه عند السراب، أو العمل. وفي التعبير بذلك زيادة تهويل. وقيل: المعنى وجده محاسبًا إياه. فالعندية بمعنى الحساب، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده. قيل: هذه الجملة معطوفة على: {لَمْ يَجِدْهُ} ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو: لم يجد ما عمله نافعًا.
قال الشهاب: ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه. ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب. والمعنى: وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب، فوفاه ما كتب له، من لا يؤخر الحساب- كان الكلام متناسبًا. واختار الثاني أبو السعود حيث قال: هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط، كما هو شأن الظمآن. ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلًا. فليست الجملة معطوفة على: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينًا ولا أثرًا. كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] فإن قيل: لِمَ خص الظمآن بالذكر، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك؟ فكان الظاهر الرائي بدله. وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الخ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به. وهو أبلغ. لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق. ونحوه: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عِمْرَان: 117]، الخ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية. يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة، ومآلها الخيبة، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر، سرابًا يحسبه شرابًا، فينتظم عطف وجد الله أحسن انتظام كما نوَّروه. كذا في الكشف.
الثالثة: قال الشهاب: وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قوله مالك بن نويرة:
لَعَمْرِيَ إِني وابن جارود كالَّذِي ** أَرَاقَ شُعَيْبَ الماءِ والآلُ يَبْرُقُ

فَلما أتاه خَيَّبَ اللهُ سعيَهُ فأمسى ** يَغُضّ الطرفَ عيمانَ يَشْهَقُ

ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر، بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} أي: عميق كثير الماء: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي: متراكم بعضه على بعض: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي: متكاثفة متراكمة. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} أي: وجعلها بمرأى منه، قريبة من عينه لينظر إليها: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي: ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن، فما له هدايةٌ ما. وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} والجملة تقرير للتمثيل قبلُ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].