فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أعمال الكفار باطلة، وأنها لا شيء، لأنه قال في السراب الذي مثلها به: {حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من بطلان أعمال الكفار، جاء موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] الآية. وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يُجزى به في الدنيا كما أوضحناه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل: 97] الآية.
وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، دون الآخرة كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورة: 20] وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 1516] وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، دون الآخر ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله عنه كما أوضحناه في الكلام على آية النحل المذكورة، وهو أحد التفسرين في قوله تعالى: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} الآية أي وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول، وقد بيّن الله جل وعلا في سورة بني إسرائيل أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، أنه مقيّد بمشيئة الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18].
تنبيه في هذه الآية الكريمة:
سؤال ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا، دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وذلك في قولنا فيه: لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أنّ الضمير في قوله: جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء، لأن وقوع المجيء على العدم لا يُعقل وقوع المجيء بالفعل، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء، ومفعول به واقع عليه المجيء. وقوله تعالى يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى: {جَاءَهُ}.
والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة.
قال فإن قال قائل كيف قيل: {حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} فإن لم يكن السراب شيئًا فعلام دخلت الهاء في قوله: {حتى إِذَا جَاءَهُ} قيل إنه شيء يُرى من بعيد كالضباب الذي يُرى كثيفًا من بعيد، فإذا قرب منه رقّ وصار كالهواء، وقد يُحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئًا فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه انتهى منه.
والوجه الأول أظهر عندي، وعنده، بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه إلخ. انتهى كلامنا في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور، وقوله تعالى في هذه الآية: {بِقِيعَةٍ} قيل جماع قاع كجار وجيرة. وقيل: القيعة والقاع بمعنى، وهو المنبسط المستوى المتسع من الأرض، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان كجار وجيران. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}.
الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث: «عملت ليقال وقد قيل».
لقد مدحوك وأثنَواْ عليك، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
{أَعْمَالُهُمْ} [النور: 39] أي: التي يظنونها خيرًا، وينتظرون ثوابها، والسراب: ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، وقِيعة: جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل {يَحْسَبُهُ} [النور: 39] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء، وربما لو لم يكُنْ ضمآنًا لما التفتَ إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجري خلف الماء، لكنه لا يجد شيئًا، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غَفْلته، ويُفَاجأ بضياع عمله.
إذن: تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِيًا، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر:
كَما أبرقَتْ قَوْمًا عِطَاشًا غَمَامَةٌ ** فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِ

وسبق أن ضربنا مثلًا لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغًا، فطلب الماء، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ، ويُسمُّون ذلك: يأْسٌ بعد إِطْماع.
لذلك الحق تبارك وتعالى يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لابد أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل.
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئًا: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
وقوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به، كما قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].
والله تعالى أخفى الموت أسبابًا وميعادًا؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكرًا له عاملًا للآخرة؛ لأنك تتوقعه في أي لحظة، فهو دائمًا على بالك، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع؛ لذلك قالوا: مَنْ مات فقد قامت قيامته.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}.
هذا مَثَل آخر توضيحي لأعمال الذين كفروا، والبحر اللجي: الواسع الكبير الذي تتلاطم فيه الأمواج، بعضها فوق بعض، وفوق هذا كله سحاب إذن: فالظلام مُطبق؛ لأنه طبقات متتالية، وفي أعماق بعيدة، وقد بلغتْ هذه الظلمة حدًا لا يرى الإنسان معها حتى يده التي هي جزء منه، فما بالك بالأشياء الأخرى؟
وقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أي: لم يقرب من أنْ يراها، وإذا نفى القُرْب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أَوْلَى؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] فكما أنه لم ينتفع بالنور، ولم يَرَ حتى يده، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب} الآية. قال: هو مثل ضربه الله لرجل عطش، فاشتد عطشه، فرأى سرابًا، فحسبه ماء، فظن أنه قدر عليه حتى أتى، فلما أتاه لم يجده شيئًا وقبض عند ذلك يقول الكافر: كذلك أن عمله يغني عنه أو نافعه شيئًا. ولا يكون على شيء حتى يأتيه الموت، فأتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئًا، ولم ينفعه إلا كما يقع العطشان المشتد إلى السراب {أو كظلمات في بحر لجي} قال: يعني بالظلمات: الأعمال. وبالبحر اللجي: قلب الإِنسان. {يغشاه موج} يعني بذلك الغشاوة التي على القلب، والسمع والبصر.
وأخرج أبن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كسراب بقيعة} يقول: أرض مستوية.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {كسراب بقيعة} قال: بقاع من الأرض، والسراب عمل الكافر {حتى إذا جاءه لم يجِدْهُ شيئًا} واتيانه إياه. موته وفراقه الدنيا {ووجد الله عنده} ووجد الله عند فراقه الدنيا {فوفاه حسابه}.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {كسراب بقيعة} قال: بقيعة من الأرض.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبيه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة ردًا عطاشًا فيقولون: أين الماء؟ فيمثل لهم السراب، فيحسبونه ماء، فينطلقون إليه، فيجدون الله عنده، فيوفيهم حسابهم. والله سريع الحساب».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {أو كظلمات في بحر لجي} قال: اللجي: العميق القعر. {يغشاه موج من فوقه موج} قال: هذا مثل عمل الكافر في ضلالات ليس له مخرج ولا منفذ. أعمى فيها لا يبصر.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} قال: أما رأيت الرجل يقول: والله ما رأيتها، وما كدت أن أراها.
وأخرج ابن المنذر عن أبي امامة أنه قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو القبر. بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون إلى مواطن يوم القيامة، وإنكم لفي بعض تلك المواطن حين يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نورًا، ويترك الكافر والمنافق فلا يعطى شيئًا، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه {أو كظلمات في بحر لجي} إلى قوله: {فما له من نور} فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير. اهـ.