فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {بِقِيعَةٍ}:
فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:
فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ** كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ

يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيرًا فَيَخْلُفُ.
وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة.
وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ:
أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ قاله صاحب اللوامح.
والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهابًا به مَذْهَبَ لغةِ طيِّئ في قولهم: الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ، أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع.
الثالث قال الزمخشري: وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلًا ليس جمعًا ولا اتِّساعًا.
وقوله: {يَحْسَبُهُ الظمآن} جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضًا. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في {جاءَه} وفي {لم يَجِدْه} وفي وَجَد، والضمائرُ في {عنده} وفي {وَفَّاه} وفي {حسابه} كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولًا. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في {جاءه} و{وجد} عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: {والذين كفروا} حَمْلًا على المعنى، إذِ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.
وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع {الظَّمان} بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.
قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ}:
فيه: أوجهٌ، أحدها: أنه نَسَقٌ على {كسَراب} على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه: أو كذي ظُلُمات. ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ. الثاني: أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتُقَدِّر ذي ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} وتُقَدِّر أعمال ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ. الثالث: أنه لا حاجةَ إلى حَذْفٍ البتة. والمعنى: أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة. وأمَّا الضميران في {أَخْرج يَده} فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي: إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها.
و{أو} هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا.
وقرأ سفيان بن حسين {أوَ كظٌلُمات} بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98].
قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ}: {في بحرٍ} صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضًا مُعْظمه، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ.
قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفةٌ أخرى ل {بَحْرٍ} هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في {يَغْشاه} على {بحرٍ} وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافًا محذوفًا أي: أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في {يَغْشاه} عائدًا عليه، وكانت الجملةُ حالًا منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.
قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً ل {موجٌ} الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و{مَوْجٌ} فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.
قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكوران قبلَه: من كونِ الجملةِ صفةً ل {موج} الثاني، أو الجارِّ فقط.
قوله: {ظُلُمَاتٌ} قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ {ظُلُمات} مبتدًا. والجملةُ من قوله: {بعضُها فوقَ بعض} خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديرًا، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم: السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم.
وقرأ ابن كثير {ظلماتٍ} بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من {سَحاب} فقرأ البزي عنه {سحابُ ظلماتٍ} بإضافة {سَحابُ} ل {ظلمات}.
وروى قنبل عنه التنوينَ في {سَحابٌ} كالجماعة مع جرِّه ل {ظُلُماتٍ}. فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء: جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ {ظلماتٍ} بدلًا مِنْ {ظلماتٍ} الأولى.
قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في {ظلمات} قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع {ظلماتٌ} في {بعضُها} أن يكونَ بدلًا من {ظلمات}. ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ فوق بعضٍ وصفًا لها بالتراكم، لا أنَّ المعنى: أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض، وبين قولك الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ.
وقد تقدَّم الكلامُ في كاد، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلًا أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ ** رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ. وقال أبوة البقاء: أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ كاد إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قوله: لم يَرَها جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله: {لم يَكَدْ} إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى {لم يكَدْ يَراها}: لم يَرَها البتةَ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ كاد زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ كاد أُخْرِجَتْ هاهنا على معنى قارب والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها.
وعليه جاء قولُ ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ

البيت. أي: لم يقارِبِ البَراحَ. ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال: لم أجِدْ بدل {لم يَكَدْ}. والمعنى الثاني: أنَّه رآها بعد جُهْدٍ. والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها، انتهى.
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتًا، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزًا وهو:
أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ

البيتين. وأمَّا ما ذكره مِنْ زيادةِ كاد فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه، ولكنه مردودٌ عندَهم. وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو مذهبُ الفراء والمبرد. والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟
وقال ابنُ عطية ما معناه: إذا كان الفعلُ بعد كاد منفيًا دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتًا دَلَّ على نفيه نحو: كاد زيد يقوم وإذا تقدَّم النفيُ على كاد احتمل أن يكونَ مُوْجَبًا، وأَنْ يكونَ منفيًا. تقول: المفلوج لا يَكاد يَسْكُن فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}.
وقال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وقال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ} [المجادلة: 18] ومَنْ أَمَّل السرابَ شرابًا فلا يلبث إلا قليلًا حتى يعلمَ أنَّه كان تخييلًا؛ فالعَطَشُ يزداد، والروح تدعو للخروج.
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ}.
ظلماتُ الحسبان، وغيومُ التفرقة، وليالي الجُحْدِ، وحنادسُ لاشَّكِّ إذا اجتمعت فلا سِراجَ لصاحبها ولا نجوم، ولا أقمارَ ولا شموسَ.... فالويلُ ثم الويل!.
قوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا مِن نُّورٍ}: إذا لم يسبق لعبدٍ نورُ القسمة، ولم يساعده تَعَلُّقٌ فجهدُه وكدُّه، وسَعْيُه وجِدُّه عقيمٌ من ثمراته، موئِسٌ من نَيْلِ بركاته والبدايات غالبةٌ للنهايات؛ فالقبولُ لأهْلِه غيرُ مُجَّلَبٍ زالرُّ لأهله غير مُكْتَسَبٍ وسعيدٌ مَن سَعِدْ بالسعادة في عِلْمِه في آزاله، وأراد كونَ ما عَلِمَ من أفعاله يكون، وأخبر أن ذلك كذلك يكون، ثم أجرى ذلك على ما أخبر وأراد وعَلِمَ.
وهكذا القول في الشقاوة؛ فليس لأفعالهة عِلَّةٌ، ولا تتوجَّهُ عليه لأحدٍ حُجَّةٌ. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}.
ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله يحسبه الظمآن والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم.
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ص- في حديث التجلي يوم القيامة ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى: {ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.
فصل:
النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح} إلى قوله: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ص- قال إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده}، وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور. اهـ.