فصل: الدلالة العلمية للآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن رحم الله كاتبه ما نصه: {والذين كفروا} بيان لحال الكافرين بضرب مثلين لأعمالهم، بعد بيان حال المؤمنين ومآل أمرهم. {أعمالهم كسراب} هو الشعاع الذي يري وسط النهار عند اشتداد الحر في الفلوات الواسعة؛ كأنه ماء سارب وهو ليس بشيء، ويسمي الآل. {بقيعة} جمع قاع، وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت. وفيه يتراءي السراب.. {يحسبه الظمآن} الذي اشتدت حاجته إلي الماء {ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا} مما حسبه وظنه. شبه ما يعمله الكافر من أنواع البر في الدنيا التي يظنها نافعة له عند الله ومنجية له من عقابه- من حيث هبوطها ومحو أثرها في الآخرة، وخيبة أمله فيها- بسراب يراه الظمآن في الفلاة وهو أشد ما يكن حاجة إلي الماء فيحسبه ماء؛ فيأتيه فلا يجده شيئا فيخيب أمله ويتحسر. {ووجد الله عنده} أي وجد حكمه تعالي وقضاءه {فوفاه حسابه} أعطاه وافيا كاملا جزاء كفره؛ أما أجورهم عليها فيوفونها في الدنيا فقط.
{أو كظلمات} أي أعمالهم الحسنة في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق كظلمات {في بحر لجي} عميق كثير الماء {يغشاه} يعلوه ويغطيه {موج من فوقه موج} آخر {من فوقه} أي من فوق هذا الموج الأعلي {سحاب} قائم، {ظلمات} هذه ظلمات متراكمة {بعضها فوق بعض} ظلمة السحاب فوق ظلمة الموج فوق ظلمة البحر. {إذا أخرج يده} من ابتلي بها {لم يكد يراها} من تراكم الظلمات؛ أي لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها. وقيل: {أو} للتنويع، فشبهت أعمالهم الحسنة بالسراب، والسيئة بالظلمات {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} أي من لم يشأ الله سبحانه أن يهديه لنوره في الدنيا فما له من هداية منها من أحد.
وكل من أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم، وصاحب صفوة التفاسير جزاهم الله خيرا ذكر كلاما مشابها وإن أضاف الخبراء علي هامش المنتخب تفسيرا لظلمات البحر اللجي علي أساس من أن عواصف البحار العميقة أو المحيطات تنطلق فيها أمواج مختلفة الطول والسعة أو الارتفاع، بحيث يبدو الموج منطلقا في طبقات بعضها فوق بعض، فيحجب ضياء الشمس، لما تثيره هذه العواصف من سحب.

.الدلالة العلمية للآية الكريمة:

تشير هذه الآية الكريمة إلي الظلمة التامة فوق قيعان البحار العميقة والمحيطات، مؤكدة أنها ظلمة مركبة، يلعب كل من السحب، والأمواج السطحية، والأمواج الداخلية دورا أساسيا في إحداثها، وهي حقيقة لم يدركها الانسان إلا في مطلع القرن العشرين.
ولما كانت الشمس هي مصدر الحرارة والضوء ومختلف صور الطاقة الأخري فيما عدا الطاقة النووية علي سطح الأرض وعلي أسطح غيرها من أجرام المجموعة الشمسية، كان لزاما علينا الرجوع إلي المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس للتعرف علي الحواجز التي يمكن أن تعترض أشعة الشمس في طريق وصولها إلي الأرض ومن أهمها الغلاف الغازي للأرض، خاصة جزءه السفلي نطاق المتغيرات المناخية أو نطاق الرجع ومابه من سحب.
الظلمة الأولي تسببها السحب:
تتكون الأشعة الصادرة من الشمس من كل الموجات الكهرومغناطيسية ابتداء من الأشعة الراديوية إلي الأشعة السينية إلا أن الغالب عليها هو الضوء المرئي وكل من الاشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية، بالاضافة إلي بعض الجسيمات الأولية المتسارعة مثل الإلكترونات، وأغلب الأشعة فوق البنفسجية يردها إلي الخارج نطاق الأوزون. وعند وصول بقية أشعة الشمس إلي الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض فإن السحب تعكس وتشتت نحو 30% منها.
وتمتص السحب وما بها من بخار الماء وجزيئات الهواء وهباءات الغبار وغيرها من نوي التكثيف الأخري حوالي 19% من تلك الأشعة الشمسية المارة من خلالها، تحجب السحب بالانعكاس والتشتيت والامتصاص حوالي 49% من أشعة الشمس، فتحدث قدرا من الظلمة النسبية.
الأمواج السطحية في البحار والمحيطات تسبب الظلمة الثانية عند وصول ماتبقي من أشعة الشمس إلي أسطح البحار والمحيطات فإن حوالي 35% من الأشعة تحت الحمراء فيها تستهلك في تبخير الماء، وتكوين السحب، وفي عمليات التمثيل الضوئي. التي تقوم بها النباتات البحرية.
أما مايصل إلي سطح البحار والمحيطات مما تبقي من الأشعة المرئية أو الضوء الأبيض. فان الأمواج السطحية للبحار تعكس 5% أخري منها، فتحدث قدرا أخر من الظلمة النسبية في البحار والمحيطات.
توهن ضوء الشمس المرئي بمروره في ماء البحار والمحيطات الجزء المرئي من أشعة الشمس الذي ينفذ إلي كتل الماء في البحار والمحيطات يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار، والتحلل إلي الأطياف المختلفة والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء، وجزيئات الأملاح المذابة فيه، وبواسطة المواد الصلبة العالقة به، وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء، وبما تفرزهتلك الأحياء من مواد عضوية، ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق.
والطيف الأحمر هو أول مايمتص من أطياف الضوء الأبيض ويتم امتصاصه بالكامل علي عمق لايكاد يتجاوز عشرة أمتار، ويليه في الامتصاص الطيف البرتقالي ثم الطيف الأصفر والذي يتم امتصاصه بالكامل علي عمق لايتجاوز الخمسين مترا، ويلي ذلك الطيف الأخضر والذي يتم امتصاصه بالكامل علي عمق مائة متر في المتوسط، ويستمر الطيف الأزرق بعد ذلك ليتم امتصاصه علي عمق يزيد قليلا علي المائتي متر، ولذلك يبدو ماء البحار والمحيطات باللون الأزرق لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية.
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص علي عمق مائة متر تقريبا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات، ويستمر 1% منها إلي عمق 150 مترا، و0،01% إلي عمق 200 متر في الماء الصافي الخالي من العوالق.
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء حوالي 300،000 كيلومتر في الثانية في الفراغ، وحوالي 225،000 كيلومتر في الثانية في الأوساط المائية، فإنه لايستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد علي الألف متر، فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل حيث لاينفذ بعد هذا العمق سوي أقل من 0،01% من ضوء الشمس، ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتي يتلاشي تماما علي عمق لايكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوي سطح البحر. حيث لايبقي من أشعة الشمس الساقطة علي ذلك السطح سوي واحد من عشرة تريليون جزء منها، ولما كان متوسط أعماق المحيطات يقدر بنحو 3795 مترا، وأن أقصاها عمقا يتجاوز الأحد عشر كيلومترا بقليل 11،034 متر وبين هذين الحدين تتراوح أعماق البحار والمحيطات بين أربعة وخمسة كيلومترات في المتوسط، وبين ثمانية وعشرة كيلومترات في أكثرها عمقا. فإن معني ذلك أن أعماق تلك المحيطات تغرق في ظلام دامس.
الأمواج الداخلية هي سبب الظلمة الثالثة فوق قيعان البحار العميقة بالاضافة إلي تحلل الضوء الأبيض عند مروره في ماء البحار والمحيطات فإن السبب الرئيسي في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية أي الغزيرة الماء لعمقها حتي لايكاد يدرك لها قاع، والمتلاطمة الأمواج لقول العرب إلتج البحر أي: تلاطمت أمواجه هي الأمواج الداخلية في تلك البحار العميقة وغير المتجانسة.
وتتكون هذه الأمواج الداخلية بين كتل الماء ذات الكثافات المختلفة، وتختلف كثافة الماء في البحار العميقة والمحيطات باختلاف كل من درجة حرارته، ونسبة الأملاح المذابة فيه، وتتمايز كتل الماء في تلك المسطحات المائية الكبيرة أفقيا بتمايز مناطقها المناخية، ورأسيا بتمايز كثافتها. وتتحرك التيارات المائية أفقيا بين مساحات شاسعة من خطوط العرض فتكتسب صفات طبيعية جديدة من درجات الحرارة والملوحة بسبب تغير معدلات التسخين أو التبريد، ومعدلات البخر أو سقوط الأمطار، مما يضطرها إلي التحرك رأسيا كذلك.
وتمايز الماء في البحار العميقة والمحيطات إلي كتل سطحية، وكتل متوسطة، وكتل شبه قطبية، وكتل حول قطبية ولايتمايز الماء إلي تلك الكتل إلا في البحار شديدة العمق، ومن هنا فإن الأمواج الداخلية لاتتكون إلا في مثل تلك البحار العميقة، ومن هنا أيضا كان التحديد القرآني بالوصف بحر لجي إعجازا غير مسبوق.
وتتكون الأمواج الداخلية عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة، وهي أمواج ذات أطوال وارتفاعات تفوق أطوال وارتفاعات الأمواج السطحية بمعدلات كبيرة، حيث تتراوح أطوالها بين عشرات ومئات الكيلومترات، وتصل سعتها أي ارتفاع الموجة إلي مائتي متر، وتتحرك بسرعات تتراوح بين 100،5 سنتيمتر في الثانية لمدد تتراوح بين أربع دقائق وخمس وعشرين ساعة.
وعلي الرغم من ذلك فهي أمواج لايمكن رؤيتها بطريقة مباشرة، وإن أمكن إدراك حركتها بأجهزة ميكانيكيةوذلك بواسطة عدد من القياسات للاضطرابات التي تحدثها تلك الأمواج الداخلية، وهذا ايضا مما يجعل الاشارة القرآنية إليها إعجازا لاينكره إلا جاحد.
كذلك يبدأ تكون الأمواج الداخلية علي عمق 40 مترا تقريبا من مستوي سطح الماء في المحيطات حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها، وقد تتكرر علي أعماق أخري كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة، وعجز الانسان في زمن الوحي ولقرون متطاولة من بعده عن الغوص إلي هذا العمق الذي يحتاج إلي أجهزة مساعدة خاصة مما يقطع باعجاز علمي في هذه الآية الكريمة بإشارتها إلي تلك الأمواج الداخلية، وهي أمواج لم يدركها الإنسان إلا في مطلع القرن العشرين سنة 1904م.
ومن فوق هذه الأمواج الداخلية تأتي الأمواج السطحية ومايصاحبها من العواصف البحرية والتي يحركها كل من الرياح والجاذبية والهزات الأرضية، ودوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق، وحركات المد والجزر الناتجة عن جاذبية كل من الشمس والقمر، وغير ذلك من العوامل المعروفة وغير المعروفة، وهذه الأمواج السطحية هي أحد العوائق أمام مرور كل أشعة الشمس الساقطة علي أسطح البحار والمحيطات، في مائها والوصول إلي أعماقها، ولذلك فهي أحد أسباب ظلمة تلك الأعماق، بالإضافة إلي تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها وامتصاصها بالتدريج في الماء.
ومن فوق هذه الأمواج السطحية تأتي السحب التي تمتص وتشتت وترد إلي صفحة السماء حوالي 49% من مجموع أشعة الشمس الواصلة إلي نطاق التغييرات المناخية فتحدث قدرا من الظلمة النسبية التي تحتاجها الحياة علي سطح الأرض.
فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور: 40).
والآية الكريمة جاءت في مقام التشبيه، ولكنها علي الرغم من ذلك جاءت في صياغة علمية دقيقة غاية الدقة، ومحكمة غاية الإحكام شأن كل الآيات القرآنية، ونزلت هذه الآية الكريمة في زمن لم يكن لأحد من الناس إلمام بتلك الحقائق العلمية ولابطرف منها، وظلت أجيال الناس جاهلة بها لقرون متطاولة بعد زمن الوحي حتي تم الإلمام بشيء منها في مطلع القرن العشرين.
ومع افتراض أن أحدا من الناس قد أدرك في القديم دور السحب في إحداث شيء من الظلمة علي الأرض ودور الأمواج السطحية في إحداث شيء من ذلك علي قيعان البحار والمحيطات وهو افتراض مستبعد جد فان من أوضح جوانب الإعجاز العلمي أي: السبق العلمي في هذه الآية الكريمة هو تلك الإشارة المبهرة إلي الأمواج الداخلية InternalWaves.
وهي أمواج لايمكن رؤيتها بالعين المجردة أبدا، ولكن يمكن إدراكها بعدد من القياسات غير المباشرة.
ومن جوانب السبق العلمي في هذه الآية الكريمة أيضا الإشارة إلي الحقيقة المعنوية الكبري التي تصفها الآية بقول الحق تبارك وتعالي: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.
ثم تفاجئنا البحوث العلمية أخيرا بواقع مادي ملموس لتلك الحقيقة بالاضافة إلي مضمونها المعنوي الجميل، فقد كان العلماء إلي عهد قريب جدا لايتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة، أولا للظلمة التامة فيها، وثانيا للبرودة الشديدة لمائها، وثالثا للضغوط الهائلة الواقعة عليها وزن عمود الماء بسمك يصل إلي أربعة كيلومترات في المتوسط، ورابعا للملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء، ولكن بعد تطوير غواصات خاصة لدراسة تلك الأعماق فوجيء دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحية التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الإنارة الحيوية Bioluminescence وتنتج هذه الإنارة العجيبة عن طريق تفاعل فريد من نوعه بين جزئ لمركب كيميائي عضوي اسمه ليوسيفيرين Luciferin.
وجزئ الأوكسجين في وجود إنزيم خاص اسمه ليوسيفيريز Luciferase،
ويمثل هذا التفاعل الفريد عملية الأكسدة الوحيدة المعروفة لنا في أجساد الكائنات الحية التي لايصاحبها إنتاج قدر مدرك من الحرارة، ومن العجيب أن كل نوع من أنواع هذه الأحياء الخاصة والتي تحيا في بيئات من الظلمة التامة له أنواع خاصة من المركبات الكيميائية المنتجة للضوء، وله إنزيماته الخاصة أيضا، والسؤال الذي يفرض نفسه: من غير الله الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة، هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز، كما يتضح بعده المعنوي الرفيع: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم، أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه لنا بلغة وحيه اللغة العربية حفظا كاملا بكل حرف، وكل كلمة، وكل آية وكل سورة، فجاء ذلك كله معجزا غاية الاعجاز فالحمد لله رب العالمين علي نعمة القرآن وصلي الله وسلم وبارك علي هذا النبي الخاتم الذي تلقاه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين. اهـ.