فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد شاهدت فِليمًا مصورًا يُسجِّل صراعًا بين دب وثور، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قَرْنَيْه بيديه، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحًا حتى سقط فراح يأكله.
إذن: كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تُسبِّح الله بها لا يعرفها إلا بنو جنسها، أو مَنْ أفاض الله عليه بعلمها؟
ثم ألم يتعلَّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قَتَل قابيلُ هابيلَ؟ كما يقول سبحانه: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] وكأن ربنا عز وجل يُعلِّمنا الأدب وعدم الغرور.
وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يُكوِّن مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون، فقد لاحظوا مجموعة تمرُّ هنا وهناك، حتى وجدتْ قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا، حيث أتوا، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفتْ حول هذه القطعة وحملتْها إلى العُشِّ، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضِعْف الأولى، فإذا بمجموعة الاستكشاف أو الناضورجية تمر عليها وتذهب دون أنْ تحاول حَمْلها، وبعدها جاء جماعة من النمل ضِعْف الجماعة الأولى، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويُجيد تقديرها.
وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتًا أبيض أمام عُشِّ النمل، فلما فحصه وجده من جنين الحبة الذي يُكوِّن النبتة، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تُنبت الحبة فتهدم عليهم العُشّ، لهذا الحد عَلِم النمل قانون صيانته، وعلم كيف يحمي نفسه، وهو من أصغر المخلوقات، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لُغته الخاصة؟
ثم يقول سبحانه: {والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فلماذا خَصَّ الطير بالذكْر مع أنها داخلة في {مَن فِي السماوات والأرض} [النور: 41].
قالوا: خَصَّها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة، يجب أن نلتفت إليها؛ لأن الله تعالى يريد أنْ يجعل الطير مثلًا ونموذجًا لشيء أعظم، فالطير كائن له وزن وثِقل، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كُلَّ ثقل يعلَقُ في الهواء.
لكن الحق سبحانه وتعالى يخرق هذا القانون للطير حين يصُفُّ أجنحته في الهواء، يظل مُعلّقًا لا يسقط: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} [الملك: 19].
وكان الخالق عز وجل يقول: خُذُوا من الطير المشاهد نموذجًا ووسيلة إيضاح، فإذا قلتُ لكم: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] فَصِدِّقوا وآمنوا أن الله يُمسك السماء، بل: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
فخُذْ من المشهد الذي تدركه دليلًا على ما لا تدركه.
لكن، مَن الفاعل في {عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود، وأحسن منه أن نقول: علم الله صلاتها وتسبيحها؛ لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح. إذن: فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه، كما تعلم أنت المنهج، لكنه استقام على منهجه لأنه مُسخّر وانحرفت أنت لأنك مُخيَّر.
فإنْ أردتَ أنْ تستقيمَ أمور حياتك فطبِّق منهج الله كما جاءك؛ لذلك لا تجد في الكون خللًا أبدًا إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان، كل شيء لا دخْلَ للإنسان فيه يسير منتظمًا، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف، كذلك القمر والنجوم والهواء، إنها منضبطة غاية الإنضباط، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم.
لذلك يقول تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يعني: بحساب دقيق، وما كان للشمس أنْ تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
{والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] أي: لقيوميته تعالى على خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}.
يريد ربك عز وجل أنْ يُطمئنك أن الذي كلَّفك بما كلَّفك به يضمن لك مُقوِّمات حياتك، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام، ولن تتأبَّى عليك الشمس أو القمر أو الأرض؛ لأنها مِلْك لله، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة، ولا تشغل نفسك بها، فقد ضمنها الله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله: {ألم تر أن الله يسبح له} إلى قوله: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} قال: الصلاة للإِنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {والطير صافات} قال: بسط أجنحتهن.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {والطير صافات} قال: صافات بأجنحتها.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن مسعر في قوله: {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} قال: قد سمي لها صلاة، ولم يذكر ركوعًا ولا سجودًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {والطير}:
قرأ العامَّةُ {والطيرُ} رفعًا. {صافاتٍ} نصبًا: فالرفعُ عطفٌ على {مَنْ} والنصبُ على الحال. وقرأ الأعرج {والطيرَ} نصبًا على المفعولِ معه و{صافَّاتٍ} حالٌ أيضًا. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع {والطيرُ صافَّاتٌ} برفعِهما على الابتداءِ والخبر. ومفعولُ {صافَّاتٌ} محذوفٌ أي: أجنحَتَها.
قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ} في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها عائدةٌ على {كل} أي: كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها. وهذا أولى لتوافُقِ الضمائر. والثاني: أنَّ الضميرَ في {عَلِمَ} عائدٌ على اللهِ تعالى، وفي {صلاتَه وتسبيحَه} عائدٌ على {كل}. الثالث: بالعكس أي: عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي: أَمَرَ بهما، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخالق.
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ {كل} قال: لأنَّ القراءة برفع {كلٌّ} على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ {كل} لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك: زيدًا ضربَ عمروٌ غلامَه فتنصِبُ زيدًا بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز. قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
التسبيح على قسمين: تسبيحُ قولٍ ونطقٍ، وتسبيحُ دلالة وخَلْق؛ فتسبيحُ الخَلْقِ عام من كل مخلوقٍ وعينٍ وأثرٍ، منه تسبيحٌ خاصٌّ بالحيوانات، وتسبيحٌ خاصٌّ بالعقلاء وهذا منقسم إلى قسمين: تسبيحٌ صادرٌ عن بصيرة، وتسبيحٌ حاصلٌ من غير بصيرة؛ فالذي قرينته البصيرة مقبولٌ، والذي تجرَّدَ عن العرفان مردود.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}.
{المُلْكُ} مبالغةٌ من المِلْك، والملك القدرة على الإِيجاد؛ فالمقدورات- قَبْلَ وجودها- للخالق مملوكة، كذلك في أحوال حدوثِها بعد عَدَمِها عائدةٌ إلى ما كانت عليه، فَمُلْكهُ لا يحدث ولا يزوال ولا يَؤُولُ شيء منه إلى البطول. اهـ.

.تفسير الآيات (43- 44):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: {ألم تر أن الله} أي ذا الجلال والجمال {يزجي} أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق.
{سحابًا} أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفًا رقيقًا متفرقًا، قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة، والمعنى: يسوق سحابة إلى سحابة.
وهو معنى {ثم يؤلف بينه} أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعًا في جهات مختلفة {ثم يجعله ركامًا} في غاية العظمة متراكبًا بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي المطر، قال القزاز: وقيل: هو احتفال المطر.
{يخرج من خلاله} أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض {وينزل من السماء} أي من جهتها مبتدئًا من {من جبال فيها} أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال: {من برد} هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله: {فيصيب به} أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة {من يشاء} من الناس وغيرهم {ويصرفه عمن يشاء} صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال: {يكاد سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو، ملتبسًا {بالأبصار} لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلًا على تكاثف السحاب وبشيرًا بقوة المطر، ونذيرًا بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار، فقال مترجمًا لما مضى بزيادة: {يقلب الله} أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلامًا، والنقص تارة والزيادة أخرى، مع المطر تارة والصحو أخرى {الليل والنهار} فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهًا على النتيجة: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم {لعبرة لأولي الأبصار} أي النافذة، والقلوب الناقدة، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعًا على الوحدانية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدلائل وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قوله: {أَلَمْ تَرَ} بعين عقلك والمراد التنبيه والإزجاء السوق قليلًا قليلًا، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد وإزجاء السير في الإبل الرفق بها حتى تسير شيئًا فشيئًا ثم يؤلف بينه، قال الفراء بين لا يصلح إلا مضافًا إلى اسمين فما زاد، وإنما قال {بَيْنَهُ} لأن السحاب واحد في اللفظ، ومعناه الجمع والواحد سحابة، قال الله تعالى: {وَيُنْشِىء السحاب الثقال} [الرعد: 12] والتأليف ضم شيء إلى شيء أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابًا واحدًا {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي مجتمعًا، والركم جمعك شيئًا فوق شيء حتى تجعله مركومًا، والودق: المطر، قاله ابن عباس وعن مجاهد: القطر، وعن أبي مسلم الأصفهاني: الماء.