فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مِنْ خِلاَلِهِ} من شقوقه ومخارقه جمع خلل كجبال في جمع جبل، وقرئ {مِنْ خلله}.
المسألة الثانية:
اعلم أن قوله: {يُزْجِي سَحَابًا} يحتمل أنه سبحانه ينشئه شيئًا بعد شيء، ويحتمل أن يغيره من سائر الأجسام لا في حالة واحدة، فعلى الوجه الأول يكون نفس السحاب محدثًا، ثم إنه سبحانه يؤلف بين أجزائه، وعلى الثاني يكون المحدث من قبل الله تعالى تلك الصفات التي باعتبارها صارت تلك الأجسام سحابًا، وفي قوله: {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} دلالة على وجودها متقدمًا متفرقًا إذ التأليف لا يصح إلا بين موجودين، ثم إنه سبحانه يجعله ركامًا، وذلك بتركب بعضها على البعض، وهذا مما لابد منه لأن السحاب إنما يحمل الكثير من الماء إذا كان بهذه الصفة وكل ذلك من عجائب خلقه ودلالة ملكه واقتداره، قال أهل الطبائع إن تكون السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء، أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلًا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء.
وأما إن كان البخار كثيرًا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إما أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ فإن بلغت فإما أن يكون البرد هناك قويًا أو لا يكون، فإن لم يكن البرد هناك قويًا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد، واجتمع وتقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم، وأما إن كان البرد شديدًا فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبارًا أو بعد صيرورتها كذلك، فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجًا، وإن كان على الوجه الثاني نزل بردًا، وأما إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فهي إما أن تكون كثيرة أو تكون قليلة، فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحابًا ماطرًا وقد لا تنعقد، أما الأول فذاك لأحد أسباب خمسة: أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة وثانيها: أن تكون الرياح ضاغطة إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح.
وثالثها: أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتمنع صعود الأبخرة حينئذ ورابعها: أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته، ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد وخامسها: لشدة برد الهواء القريب من الأرض.
وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودًا يسيرًا حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس، وأما إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فإذا ضربها برد الليل كثفها وعقدها ماء محسوسًا فنزل نزولًا متفرقًا لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن لم يجمد كان طلًا، وإن جمد كان صقيعًا، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر، وأما تكون السحاب من انقباض الهواء فذلك عندما يبرد الهواء وينقبض، وحينئذ يحصل منه الأقسام المذكورة والجواب: أنا لما دللنا على حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرًا مختارًا يمكنه إيجاد الأجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه، وأيضًا فهب أن الأمر كما ذكرتم، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلابد لها من مؤثر.
ثم إنها متماثلة، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لابد له من مخصص، فإذا كان هو سبحانه خالقًا لتلك الطبائع وتلك الطبائع مؤثرة في هذه الأحوال وخالق السبب خالق المسبب، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابًا، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء، ثم إن تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض فهو سبحانه هو الذي جعلها ركامًا، فثبت على جميع التقديرات أن وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة ظاهر بين.
أما قوله سبحانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن في السماء جبالًا من برد خلقها الله تعالى كذلك، ثم ينزل منها ما شاء وهذا القول عليه أكثر المفسرين، قال مجاهد والكلبي: جبال من برد في السماء والقول الثاني: أن السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من هذا الغيم الذي هو سماء البرد وأراد بقوله: {مِن جِبَالٍ} السحاب العظام لأنها إذا عظمت أشبهت الجبال، كما يقال فلان يملك جبالًا من مال ووصفت بذلك توسعًا وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله تعالى في السحاب، ثم أنزله إلى الأرض، وقال بعضهم إنما سمى الله ذلك الغيم جبالًا، لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم شديد متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] ومنه فلان مجبول على كذا، قال المفسرون والأول أولى لأن السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فجعله اسمًا للسحاب بطريقة الاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الله الماء في السحاب ثم ينزله بردًا، فقد يصح أن يكون في السماء جبال من برد، وإذا صح في القدرة كلا الأمرين فلا وجه لترك الظاهر.
المسألة الثانية:
قال أبو علي الفارسي قوله تعالى: {مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} فمن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتبيين لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، ثم قال ومفعول الإنزال محذوف والتقدير وينزل من السماء من جبال فيها من برد، إلا أنه حذف للدلالة عليه.
أما قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} فالظاهر أنه راجع إلى البرد، ومعلوم من حاله أنه قد يضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، فبين سبحانه أنه يصيب به من يشاء على وفق المصلحة ويصرفه، أي يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقط عليه، ومن الناس من حمل البرد على الحجر وجعل نزوله جاريًا مجرى عذاب الاستئصال وذلك بعيد.
أما قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} على الإدغام وقرئ {بُرَقه} جمع بُرْقة وهي المقدار من البرق وبُرُقه بضمتين للاتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات، و{سناء برقه} على المد والمقصور بمعنى الضوء والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع و{يَذْهَبُ بالأبصار} على زيادة الباء كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] عن أبي جعفر المدني.
المسألة الثانية:
وجه الاستدلال بقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} أن البرق الذي يكون صفته ذلك لابد وأن يكون نارًا عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم.
المسألة الثالثة:
اختلف النحويون في أنك إذا قلت ذهبت بزيد إلى الدار فهل يجب أن تكون ذاهبًا معه إلى الدار، فالمنكرون احتجوا بهذه الآية.
أما قوله: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} فقيل فيه وجوه: منها تعاقبهما ومجيء أحدهما بعد الآخر وهو كقوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] ومنها ولوج أحدهما في الآخر وأخذ أحدهما من الآخر.
ومنها تغير أحوالهما في البرد والحر وغيرهما ولا يمتنع في مثل ذلك أن يريد تعالى معاني الكل لأنه في الإنعام والاعتبار أولى وأقوى.
أما قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} فالمعنى أن فيما تقدم ذكره دلالة لمن يرجع إلى بصيرة، فمن هذا الوجه يدل أن الواجب على المرء أن يتدبر ويتفكر في هذه الأمور، ويدل أيضًا على فساد التقليد. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ}.
قِيلَ: إنَّ {مِنْ} الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّ الْبَرَدَ بَعْضُ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَالثَّالِثَةِ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ؛ إذْ كَانَ جِنْسُ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسَ الْبَرَدِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يُزْجِي سَحَابًا}.
فيه وجهان:
أحدهما: ينزله قليلًا بعد قليل، ومنه البضاعة المزجاة لقلتها.
الثاني: أنه يسوقه إلى حيث شاء ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله قال النابغة:
إِنِّي أتَيْتُكَ من أَهْلِي ومنْ وَطَنِي ** أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقٌ

{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه ثم يفرقه عند انتشائه ليقوى ويتصل.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يركب بعضه بعضًا.
{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} فيه قولان:
أحدهما: أن الودق البرق يخرج من خلال السحاب قال الشاعر:
أثرن عجاجة وخرجن منها ** خروج الودق من خلَلَ السحاب

وهذا قول أبي الأشهب.
الثاني: أنه المطر يخرج من خلال السحاب، وهو قول الجمهور، ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل أبقالها

{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن في السماء جبال برد فينزل من تلك الجبال ما يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
الثاني: أنه ينزل من السماء بردًا يكون كالجبال.
الثالث: أن السماء السحاب، سماه لعلوه، والجبال صفة السحاب أيضًا سمي جبالًا لعِظمه فينزل منه بردًا يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: صوت برقه.
الثاني: ضوء برقه، قاله يحيى بن سلام ومنه قول الشماخ.
وما كادت إذا رفعت سناها ** ليبصر ضوءها إلاّ البصير

الثالث: لمعان برقه، قاله قتادة والصوت حادث عن اللمعان كما قال امرؤ القيس:
يضي سناه أو مصابيح راهب ** أمال السليط بالذبال المفتل

فيكون البرق دليلًا على تكاثف السحاب، ونذيرًا بقوة المطر، ومحذرًا من نزول الصواعق.
قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ} فيه ثلاث أوجه:
أحدها: هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل، حكاه ابن عيسى.
الثاني: أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل، حكاه يحيى بن سلام.
الثالث: أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى، ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة، حكاه النقاش.
ويحتمل رابعًا: أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}.
الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته، و{يزجي} معناه يسوق، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق:
على مزاحيف تزجيها مخارير