فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل، ومنه قول حبيب في الشيب:
ونحن نزجيه

وسيبويه أبدًا يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلًا متباطئًا، وقوله: {يؤلف بينه} أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجًا، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت بين إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا، وورش عن نافع لا يهمز {يولف} وقالون عن نافع والباقون يهمزون {يؤلف} وهو الأصل، والركام الذي يركب بعضه بعضًا ويتكاثف، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركامًا بالريح عصر بعضه بعضًا فخرج {الودق} منه ومن ذلك قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجًا} [النبأ: 14] ومن ذلك قول حسان بن ثابت: [الكامل].
كلتاهما حلب العصير ** فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل

ويروى للمِفصل بكسر الميم وبفتح الصاد، فالمِفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان ويروى بالقاف، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان، و{الودق} المطر ومنه قول الشاعر: [المتقارب].
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

وقرأ جمهور الناس {من خلاله} وهو جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ ابن عباس والضحاك {من خلله} وقرأ عاصم والأعرج {وينزّل} على المبالغة والجمهور على التخفيف، وقوله: {من جبال فيها من برد} قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالًا {من برد} وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة {من} في قوله: {من برد} وهو قول ضعيف، و{من} في قوله: {من السماء} في لابتداء الغاية، وفي قوله: {من الجبال} هي للتبعيض، وفي قوله: {من برد} هي لبيان الجنس، والسنا مقصور، الضوء والسناء، ممدود، المجد والارتفاع في المنزلة، وقرأ الجمهور {سنا} بالقصر، وقرأ طلحة بن مصرف {سناء} بالمد والهمز.
وقرأ طلحة أيضًا {بُرَقةَ} بضم الباء وفتح الراء وهي جمع {بُرْقة} بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف، وقرأ الجمهور {يَذهب} بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر {يُذهب} بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله: {ينبت بالدهن} [المؤمنون: 20] ويحتمل أن يكون مثل قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} [الحج: 25] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله يُزْجِي سحابًا} أي: يسوقه {ثم يؤلِّف بينه} أي: يضم بعضه إِلى بعض، فيجعل القِطَع المتفرِّقة قطعة واحدة.
والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فلهذا قال: {يؤلِّف بينه ثم يجعلُه رُكامًا} أي: يجعل بعض السحاب فوق بعض {فترى الوَدْقَ} وهو المطر.
قال الليث: الوَدْقُ: المطر كُلُّه شديدُه وهيِّنُه.
قوله تعالى: {مِن خِلاله} وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك: {من خَلَلهِ}.
والخِلال: جمع خَلَل، مثل: جبال وجبل.
{وينزِّل من السماء} مفعول الإِنزال محذوف، تقديره: وينزِّل من السماء من جبال فيها من بَرَدٍ بَرَدًا، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه.
و{مِنْ} الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإِنزال من السماء، والثانية، للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال جنس البَرَد؛ قال المفسرون: وهي جبال في السماء مخلوقة من بَرَد.
وقال الزجاج: معنى الكلام: وينزِّل من السماء من جبال بَرَد فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، المعنى: هذا خاتم حديد في يدي.
قوله تعالى: {فيُصيب به} أي: بالبَرَد {من يشاء} فيضرُّه في زرعه وثمره.
والسنا: الضوء، {يَذْهَبُ} وقرأ مجاهد، وأبو جعفر: {يُذْهِبُ} بضم الياء وكسر الهاء.
{يقلِّب اللّهُ الليل والنهار} أي: يأتي بهذا، ويذهب بهذا، {إِنَّ في ذلك} التقلُّب {لعبرةً لأولي الأبصار} أي: دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانية الله وقدرته. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا}.
ذكر من حججه شيئًا آخر؛ أي ألم تر بعيْنَيْ قلبك.
{يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق إلى حيث يشاء.
والريح تُزْجِي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه.
ومنه زجا الخراجُ يزجو زَجاءً ممدودًا إذا تيسَّرت جِبايته.
وقال النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني ** أزجِي حُشاشة نفسٍ ما بها رَمَقُ

وقال أيضًا:
أسْرَتْ عليه من الجوزاء سارِيَةٌ ** تُزْجِي الشَّمالُ عليه جامدَ البَرَدِ

{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوَى ويتَّصل ويَكْثُف.
والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف.
وقرىء {يُوَلِّف} بالواو تخفيفًا.
والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع؛ ولهذا قال: {يُنْشِىءُ السَّحاب}.
وبين لا يقع إلا لاثنين فصاعدًا، فكيف جاز بينه؟ فالجواب أن {بينه} هنا لجماعة السحاب؛ كما تقول: الشجر قد جلستُ بينه لأنه جمع، وذكّر الكناية على اللفظ؛ قال معناه الفراء.
وجواب آخر: وهو أن يكون السحاب واحدًا فجاز أن يقال بينه؛ لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:
بين الدَّخُول فحَوْمَلِ

فأوقع بين على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع.
وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة؛ لأن الكوفة أماكن كثيرة؛ قاله الزجاج وغيره.
وزعم الأصْمَعِيّ أن هذا لا يجوز، وكان يروي:
بين الدَّخُول وحَوْمَلِ

{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي مجتمعًا، يركب بعضه بعضًا؛ كقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفًا مِّنَ السماء سَاقِطًا يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44].
والرَّكْمُ جمع الشيء؛ يقال منه: رَكَم الشيء يَرْكُمُه رَكْمًا إذا جمعه وألقى بعضه على بعض.
وارتكم الشيءُ وتراكم إذا اجتمع.
والرُّكْمة الطين المجموع.
والرُّكَام: الرمل المتراكم.
وكذلك السحاب وما أشبهه.
ومُرْتَكَمُ الطريق بفتح الكاف جادّته.
{فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في {الوَدْق} قولان:
أحدهما: أنه البرق؛ قاله أبو الأشهب العقيلي.
ومنه قول الشاعر:
أثرنا عَجاجة وخرجن منها ** خروج الوَدْق من خَلَل السحاب

الثاني: أنه المطر؛ قاله الجمهور.
ومنه قول الشاعر:
فلا مُزْنة ودَقَتْ ودْقَها ** ولا أرضَ أبْقَلَ إبقالها

وقال امرؤ القيس:
فدمعهما وَدْقٌ وسَحٌّ ودِيمَةٌ ** وسَكْبٌ وَتَوْكَافٌ وتَنْهَمِلانِ

يقال: ودَقَت السحابة فهي وادقة.
ووَدَق المطر يَدِق ودْقًا؛ أي قَطَر.
ووَدَقْتُ إليه دنوت منه.
وفي المثل: وَدَق العَيْرُ إلى الماء؛ أي دنا منه.
يُضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه.
والموضع مَوْدِق.
ووَدَقْتُ به وَدْقًا استأنستُ به.
ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودَقَتْ تَدِق وَدْقًا، وأوْدَقَتْ واستودَقَتْ.
وأتان وَدُوق وفرس وَدُوق، ووَدِيق أيضا، وبها وِداق.
والوَدِيقة: شدّة الحَرّ.
وخِلال جمع خَلَل؛ مثلُ الجبل والجبال، وهي فُرَجُه ومخارج القطر منه.
وقد تقدم في البقرة أن كعبًا قال: إن السحاب غِرْبال المطر؛ لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض.
وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية {من خلله} على التوحيد.
وتقول: كنت في خلال القوم؛ أي وسطهم.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} قيل: خلق الله في السماء جبالًا من بَرَد، فهو ينزِّل منها بَرَدًا؛ وفيه إضمار، أي ينزِّل من جبال البرد بَرَدا، فالمفعول محذوف.
ونحو هذا قول الفرّاء؛ لأن التقدير عنده: من جبال برد؛ فالجبال عنده هي البرد.
و{بَرَدٍ} في موضع خفض؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبالٍ بردٍ فيها، بتنوين جبال.
وقيل: إن الله تعالى خلق في السماء جبالًا فيها برد؛ فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد.
و{مِن} صلة.
وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من بَرَد إلى الأرض؛ ف {من} الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن البَرَد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البَرَد.
وقال الأخفش: إن {مِن} في الجبال و{بَرَد} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب؛ أي ينزل من السماء بَرَدًا يكون كالجبال.
والله أعلم.
{فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّن يَشَاءُ} فتكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة.
وقد مضى في البقرة، والرعد أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خِيفته ثلاثًا عُوفي مما يكون في ذلك الرعد.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب {يَذْهَبُ بالأبصار} من شدّة بَريقه وضوئه.
قال الشّمَّاخ:
وما كادت إذا رفعَتْ سَناهَا ** ليُبْصِر ضوءها إلاّ البَصِيرُ

وقال امرؤ القيس:
يضيء سَناه أو مصابيحُ راهبٍ ** أهان السَّلِيط في الذُّبال المُفَتَّلِ

فالسَّنَا مقصور ضَوْء البرق.
والسَّنَا أيضًا نبت يتداوىَ به.
والسَّناء من الرفعة ممدود.
وكذلك قرأ طلحة بن مُصَرِّف {سناء} بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصّفاء؛ فأطلق عليه اسم الشرف.
قال المبرّد: السَّنَا مقصور وهو اللمع؛ فإذا كان من الشّرف والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الالتماع.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف {سَنَاءُ بُرَقِه} قال أحمد بن يحيى: وهو جمع بُرْقة.
قال النحاس: البُرْقة المقدار من البَرْق، والبَرْقة المرّة الواحدة.
وقرأ الجَحْدَرِيّ وابن القَعْقاع {يُذْهِب بالأبصار} بضم الياء وكسر الهاء؛ من الإذهاب، وتكون الباء في {بالأبصار} صلةً زائدة.
الباقون {يَذْهَبُ بالأبصار} بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق.
والبَرْقُ دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوّة المطر، ومحذّر من نزول الصواعق.
{يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر.
وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما.
وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرّة وبضَوْء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرّة بظلمة السحاب ومرّة بضوء القمر؛ قاله النقاش.
وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدّر فيهما من خير وشر ونفع وضرّ.
{إِنَّ فِي ذلك} أي في الذي ذكرناه من تقلّب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء {لَعِبْرَةً} أي اعتبارًا {لأُوْلِي الأبصار} أي لأهل البصائر من خَلْقي. اهـ.