فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

و{يُزْجِي} معناه: يسوق، والرُّكام، الذي يركب بَعْضُه بعضًا ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخارِيُّ: {مِن خلاله} أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} قيل: ذلك حقيقةٌ، وقد جعل اللّه في السماء جبالًا من بَرَدٍ، وقالت فرقة: ذلك مجازٌ، وإنَّما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم.
قلت: وحَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى إنْ لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيِّ والمُخْتَصِّينَ به قال: أخبرنا أَبو بكر الصوليُّ عن بعض العلماء قال: رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعِها، فجاء الناس: يُعَزُّنَها فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنتَ المَأْمُولُ لأَحْسَنِ الخَلَفِ وبيدك التعويضُ مِمَّا تَلِفَ، فافعل بنا ما أَنْتَ أهله، فإنَّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرحْ حتى مَرَّ رجل من الأَجِلاَّءِ، فحُدِّث بما كان؛ فَوَهَبَ لها خَمْسِمائَةٍ دينارٍ، فأجاب اللّه دعوتها وَفَرَّجَ في الحين كربتها، انتهى. وال {سنا} مقصورًا: الضوءُ، وبالمد: المَجْدُ، والباء في قوله: {بالأبصار} يحتمل أنْ تكون زائدة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا}.
الإزجاءُ سوقُ الشَّيءِ برفقٍ وسهولة غلبَ في سوقِ شيءٍ يَسيرٍ أو غيرِ معتدَ به، ومنه البضاعةُ المُزجاة ففيه إيماءٌ إلى أنَّ السَّحابَ بالنسبة إلى قُدرته تعالى ممَّا لا يعتدُّ به {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} أي بين أجزائِه بضمِّ بعضِها إلى بعضٍ. وقرئ يُوَلِّف بغير همزةٍ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي مُتراكمًا بعضُه فوقَ بعضٍ {فَتَرَى الودق} أي المطرَ إثرَ تراكمِه وتكاثفِه، وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من فتوقِه. حالٌ من الوَدْق لأنَّ الرُّؤيةَ بصريَّةٌ وفي تعقيب الجعلِ المذكورِ برؤيته خارجًا لا بخروجه من المبالغةِ في سرعةِ الخُروج على طريقة قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} ومن الاعتناءِ بتقرير الرُّؤيةِ ما لا يخفى. والخِلالُ جمع خَلَلٍ كجِبَالٍ وجَبَلٍ، وقيل: مفردٌ كحِجابٍ وحِجاز ويؤيِّده أنَّه قرئ من خَلَلِه {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء} من الغمامِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ {مِن جِبَالٍ} أي من قطعٍ عظامٍ تُشبه الجبالَ في العِظَمِ كائنة {فِيهَا} وقوله تعالى: {مِن بَرَدٍ} مفعولُ ينزل على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ والأُوليانِ لابتداء الغايةِ على أنَّ الثَّانية بدلُ اشتمالٍ من الأُولى بإعادة الجارِّ أي ينزل مبتدئًا من السَّماءِ من جبال فيها بعضُ بَرَدٍ، وقيل: المفعولُ محذوفٌ ومِن بَرَدٍ بيانٌ للجبال أي ينزل مُبتدئًا من السَّماءِ من جبالٍ فيها من جنس البَرَدِ بردًا والأولُ أظهرُ لخُلوهِ عن ارتكاب الحذفِ والتَّصريح ببعضيَّةِ المنزل، وقيل: المفعولُ مِن جبالٍ على أن مِن تبعيضيَّةٌ ومن بَرَدٍ بيانٌ للجبالِ أي ينزل من السَّماءِ بعضَ جبالٍ كائنة فيها من بَرَدٍ أي مشبهة بالجبالِ في الكثرةِ، وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الاعتناء بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر، وقيل: المرادُ بالسَّماءِ المظلة.
وفيها جبال من بَرَد كما أنَّ في الأرض جبالًا من حَجَرٍ وليس في العقل ما ينفيهِ من قاطعٍ والمشهورُ أنَّ الأبخرةَ إذا تصاعدت ولم تحللها حرارةٌ فبلغت الطَّبقةَ الباردةَ من الهواءِ وقوي البردُ اجتمع هناك وصار سَحَابًا وإنْ لم يشتدَّ البردُ تقاطر مطرًا وإنِ اشتدَّ فإنْ وصلَ إلى الأجزاء البُخاريَّةِ قبل اجتماعها نزل ثَلْجًا والإنزال بَرَدًا وقد يبردُ الهواءُ بردًا مُفرطًا فينقبض وينعقدُ سحابًا وينزل منه المطر أو الثلجُ وكلُّ ذلك مستندٌ إلى إرادةِ الله تعالى ومشيئتِه المبنيَّةِ على الحِكَمِ والمَصَالحِ {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بما ينزله من البَرَد {مَن يَشَاء} أنْ يصيبَه به فينالُه من ضرر في نفسه وماله {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} أنْ يصرفَه عنه فينجُو من غائلتِه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوءُ برقِ السَّحابِ الموصوفِ بما مرَّ من الإزجاءِ والتَّأليفِ وغيرِهما.
وإضافةُ البرقِ إليه قبل الإخبار بوجودِه فيه للإيذانِ بظهور أمرِه واستغنائِه عن التَّصريح به. وقرئ بالمدِّ بمعنى الرِّفعةِ والعُلو وبإدغامِ الدَّالِ في السِّينِ. وبُرَقه بفتحِ الرَّاءِ على أنَّه جمع بَرْقة وهي مقدارٌ من البرق كالغُرفةِ وبضمِّها للإتباع لضمَّة الباءِ {يَذْهَبُ بالأبصار} أي يخطفُها من فرطِ الإضاءةِ وسرعةِ ورودِها، وفي إطلاق الأبصارِ مزيدُ تهويلٍ لأمرِه وبيانٌ لشدَّةِ تأثيرِه فيها كأنَّه يكادُ يذهبُ بها ولو عندَ الإغماضِ وهذا مِن أقوى الدَّلائلِ على كمالِ القُدرةِ من حيثُ أنَّه توليدٌ للضدِّ من الضدِّ. وقرئ يُذهب من الإذهابِ على زيادةِ الباءِ.
{يُقَلّبُ الله الليل والنهار} بالمُعاقبة بينهما أو بنقصِ أحدِهما وزيادةِ الآخرِ أو بتغير أحوالهما بالحرِّ والبردِ وغيرهما ممَّا يقعُ فيهما من الأمور التي من جُملتِها ما ذُكر من إزجاءِ السَّحابِ وما ترتَّب عليهِ.
{إِنَّ في ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما فُصِّل آنِفًا، وما فيه من معنى البُعد مع قُربِ المشارِ إليه للإيذانِ بعلُّوِ رُتبتِه وبُعدِ منزلتِه {لَعِبْرَةً} أي لدلالةً واضحةً على وجود الصَّانعِ القديمِ ووحدتِه وكمال قُدرتِه وإحاطة علمِه بجميعِ الأشياءِ ونفاذِ مشيئتِه وتنزهه عمَّا لا يليقُ بشأنه العليِّ {لأُوْلِى الأبصار} لكلِّ مَن له بصرٌ. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا} إلخ.
كالتأكيد لما قبله والتنوير له والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة، وقيل: سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئًا بعد شيء على قلة وضعف، وقيل: أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماءًا إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة، والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} بأن يوصل سحابة بسحابة، وقال غير واحد: السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله:
بين الدخول فحومل

واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت.
وقرأ ورش عن نافع {يُؤَلّفُ} غير مهموز {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي متراكمًا بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق} أي المطر شديدًا كان أو ضعيفًا إثر تراكمه وتكاثفه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل، وقيل: هو مفرد كحجاب وحجاز، وأيد بقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن زيد والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من {خلله} والمراد حينئذٍ الجنس، والجملة في موضع الحال من {فَتَرَى الودق} لأن الرؤية بصرية، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجًا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء} أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلًا فيما ينزل بناءً على المشهور في سبب تكون البرد، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل {مِن جِبَالٍ} أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] والمراد بها قطع السحاب، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في الدرر والغرر الرضوية قول الأصبهاني: إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد {فِيهَا} أي في السماء، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال، وقوله تعالى: {مِن بَرَدٍ} وهو معروف، وسمي بردًا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول {يُنَزّلٍ} على أن من تبعيضية، وقيل: زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردًا.
وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر، وقيل: من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل: زائدة على رأي الأخفش أيضًا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالًا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد، وعن الأخفش إن {مِنْ} الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالًا بردًا ومآله ينزل من السماء بردًا.
وقال الفراء: هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ و{فِيهَا} خبره والضمير من {فِيهَا} للجبال أي ينزل من السماء جبالًا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره، وإما على أنه فاعل {فِيهَا} لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضًا.
والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازًا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ** لها شاعرًا مني أطب وأشعرا

وأكثر بيتًا شاعر ضربت له ** بطون جبال الشعر حتى تيسرا

ويقال: عنده جبل من ذهب وجبل من علم، وعن مجاهد.
والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا: إن الله تعالى خلق في السماء جبالًا من برد كما خلق في الأرض جبالًا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التس سمي بخارًا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلًا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدًا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف بالتصاعد شيئًا فشيئًا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرًا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردًا أو نزلت ثلجًا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحًا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحًا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارًا وقد ينعقد المطر بردًا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عندما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفًا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع، وليس بحيث يصير سحابًا فيكون منه الطل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابًا ويمطر بحاله، والحق أن كل ذلك مستند إلى إرادة الله عز وجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسًا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال: إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لاسيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بما ينزل من البرد {مَن يَشَاء} أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} أن يصرفه عنه فينجو من غائلته، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر.