فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى {الودق} والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان اه وفيه بعد ومنع ظاهر.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما صمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر.
وقرأ طلحة بن مصرف {سناء} ممدودًا {سَنَا بَرْقِهِ} بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة.
واللقمة، وعنه أيضًا أنه قرأ {بَرْقِهِ} بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في {ظلمات} [النور: 40] والسناء ممدودًا بمعنى العلو وارتفاع الشأن، وهو هنا كناية عن قوة الضوء، وقرئ {يَكَادُ سَنَا} بإدغام الدال في السين {يَذْهَبُ بالابصار} أي يخطفها من فرط الإضارة وسرعة ورودها؛ وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث أنه توليد للضد من الضد.
وقرأ أبو جعفر {يَذْهَبُ} بضم الياء وكسر الهاء، وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا: لأن الباء تعاقب الهمزة، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية، وقد أخطآ في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضًا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله:
فلثمت فاها قابضًا بقرونها ** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية.
{يُقَلّبُ الله الليل والنهار} بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه، وكأن الجملة على هذا استئناف لبيان الحكمة فيما مر، وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز وجل لا يتعاصاه ما تقدم من الإجاء وما بعده، وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف العطف لقصد التعداد وهو كما ترى {إِنَّ في ذَلِكَ} إشارة إلى ما فصل آنفًا، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته {لَعِبْرَةً} لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي، ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة {لأوْلِى الأبصار} أي لكل من له بصيرة يراجعها ويعملها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق.
وقيل: هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه، والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة.
وتعقب بأنه يلزم عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء، واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشىء عند من دقق النظر من عدم الإتقان، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعًا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا، وأشار إليه البيضاوي وغيره ولعل من اختار المتبادر راعى أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي: يسوقها برفق. ومنه البضاعة المزجاة، يزجيها كل أحد. أي: يدفعها لرغبته عنها، أو لقدرته على سوقها وإيصالها: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} بضم بعضه إلى بعض. فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي: متراكمًا بعضه فوق بعض: {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي: المطر: {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} وهي فرجه ومخارج القطر منه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} قال ابن كثير: يحتمل المعنى: فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء. ويحتمل المعنى: فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع. ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم. انتهى.
وخلاصته أن الضمير إما للأقرب، على الثاني، أوله ولما قبله، على الأول.
لطيفة:
قد ذكرت من الجارّة في الآية ثلاث مرات. فالأولى ابتدائية اتفاقًا. والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية، على جعل مدخولها بدلًا مما قبله بإعادة الجار. والثالثة فيها هذه الأقوال. وتزيد برابع، وهو أنها لبيان الجنس. والتقدير: ينزل من السماء بعض جبال، التي هي البرد.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي: لمعانه: {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} أي: يخطفها لشدته وقوته.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفًا له. أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد، لانتظام معايشهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}.
أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيرًا لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف.
وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله: {فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء}.
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي.
و{يزجي}: يسوق.
يقال: أزجى الإبل إزجاء.
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحابًا كثيفًا، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى: {ثم يؤلف بينه} الخ.
وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة (164) في قوله: {والسحاب المسخر} وفي أول سورة الرعد (12).
ودخلت بين على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس:
بَيْن الدخول فحَوْمَل

أي يؤلف بين السحابات منه.
والركام: مشتق من الركم.
والركم: الجمع والضم.
ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول.
فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى: {وإن يَروا كسفًا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركوم} في سورة الطور (44).
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق.
فقال بعض المفسرين: هو الودق.
وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب.
والخلال: الفتوق، جمع خَلَل كجبل وجبال.
وتقدم {خلال الديار} في سورة الإسراء (5).
ومعنى {ينزل من السماء} يُسقط من علو إلى سفل، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض.
والسماء: الجو الذي فوق جهة من الأرض.
وقوله: {من جبال} بدل من {السماء} بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال.
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف.
يقال: فلان جبل علم، وطود علم.
وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مثل أحُد ذهبًا لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئًا أرصده لدين» أي ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لمَا سرني أو لما كان سرني الخ.
وحرف {من} الأول للابتداء و{من} الثاني كذلك و{من} في قوله: {من برد} مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة {من} في الإثبات.
أو تكون {من} اسمًا بمعنى بعض.
ومفعول {ينزل} محذوف يدل عليه قوله: {فيها من برد} والتقدير: يُنزل بَردًا.
ووقوع {من} زائدة لقصد مشاكلة قوله: {من جبال}.
وقوله: {فيصيب به من يشاء} جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه.
ومن ذلك سميت المصيبةَ الحادثةُ المكروهة.
وأما قوله تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم} [التوبة: 50] فلأن قوله: {حسنة} قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازًا مرسلًا وإما مشتركًا لفظيًا أو مشتركًا معنويًا فإن أصاب مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر، فجعل نزول البرَد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة، فضمير {به} للبرَد.
وجملة: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} وصف ل {سحابًا}.
وضمير {برقه} عائد إلى {سحابًا}.
وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرَد، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرْق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة.
ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر.
والسنا مقصورًا: ضوء البرق وضوء النار.
وأما السناء الممدود فهو الرفعة.
قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود:
زال السنا عن ناظريـ ** ـه وزال عن شرف السناء

ولام التعريف في {بالأبصار} لام الحقيقة.
وقوله: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} هو كقوله في سورة البقرة (20) {يكاد البرق يخطف أبصارهم} سوى أن هذه الآية زيد فيها لفط {سنا} لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضيًا للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين: بتكوين البرق في السحاب.
وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار.
وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه قوارع ومصائب.
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب {يذهب بالأبصار} وهنالك بقوله: {يخطف أبصارهم} لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في {يذهب} إذ هو مجرد الاستلاب.