فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية.
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ {يُنَزِّلُ} هو {مِنْ جبال} كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري: أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول {يُنَزِّل} هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالًا بَرَدًا، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولًا ل {يُنَزِّل} والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً ل {جبال} فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتبارًا باللفظِ، أو بالنصبِ اعتبارًا بالمَحَلِّ.
ويجوزُ أن يكونَ {فيها} وحدَه هو الوصفَ، ويكون {مِنْ بَرَدٍ} فاعلًا به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.
وقال الزَّجاج: معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ: هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب {مِنْ} لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحدًا انتهى. فيكونُ {مِنْ بَرَدٍ} في موضعِ جَرٍّ صفةً ل {جبال} كما كان {من حديد} صفةً ل {خاتم} ويكونُ مفعولُ {يُنَزِّل} {من جبال}. ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال بردًا أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَدًا.
وقال أبو البقاء: والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئًا من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قوله: {فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالًا فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه. وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخرًا: وتَقْديرٌ مستغنى عنه، وينافي قولَه: وهذا الوجه هو الصحيح. والضميرُ في {به} يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معًا، جريًا بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ.
قوله: {سَنَا بَرْقِهِ} العامَّةُ على قَصْر {سَنا} وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَنًا. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس:
يضيءُ سَناه أو مصابيحُ راهِبٍ

والسَّنا بالمدِّ: الرِفْعَةُ. قال:
وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّمًا

وقرأ ابنُ وثَّاب {سَناءُ بُرَقِه} بالمدِّ، وبضمِّ الباء مِنْ {بُرَقِه} وفتح الراء. ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضًا. فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ. وأمَّا {بُرَقِه} فجمعُ بُرْقَة، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب. وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعًا لضم الظاء. وإنْ كان أصلُها السكونَ.
وقرأ العامَّة أيضًا {يَذْهَبُ} بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة.
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قرئ به في المتواتر {تُنْبِتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى {مِنْ} تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه:
شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}.
تعرَّف إلى قلوب العلماء بدلالات صُنْعِه في بديع حكمته، وبما يدل منها على كمال قدرته، وشمول علمه وحكمته، ونفوذ إرادته ومشيئته. فَمَنْ أنعم النظرَ وَصَلَ إلى بَرَدِ اليقين، ومَنْ أعرض بقي في وَهْدَةِ الجُحْدِ وظلمات الجهل.
ترتفع بقدرته بخاراتُ البحرِ، وتصعد بتسييره وتقديره إلى الهواء وهو السحاب، ثم يُديرها إلى سَمْتٍ يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر قطرةً قطرةً؛ ويكون الماء قبل حصول بخارات البحر غير عَذْبٍ فيقلبه عَذْبًا، ويُسِحُّه السحاب سَكْبًا، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْرًا يكون له مُراداَ معلومًا، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ أو يُنَزَّلُ، ولا بالحيلةِ يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَألنَّهَارَ}: وكذلك جميع الأغيار من الرسوم والآثار... ذلك تقدير العزيز العليم. اهـ.
من الإعجاز العلمي في القرآن:
للدكتور زغلول النجار بحث بعنوان:

.من أسرار القرآن: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية:

{وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}:
بقلم: د. زغلول النجار.
النص القرآني المتمم للآية الثالثة والأربعين من سورة النور نص معجز لاحتوائه علي عدد من الحقائق العلمية التي لم يدركها أهل العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وسورة النور سورة مدنية، آياتها أربع وستون، ويدور محورها الرئيسي حول عدد من التشريعات الإلهية التي تحكم سلوك المسلم، وتضبط أخلاقه ومعاملاته، وتحدد له ما يجب أن يتمسك به من آداب في كل من حياته الخاصة والعامة، كما تحدد ضوابط العلاقات في داخل الأسرة المسلمة صونا لحرماتها، وحفاظا عليها من التفكك والانهيار، انطلاقا من كونها محضن الصغار، ولبنة بناء المجتمع المسلم.
ولذلك أوردت سورة النور عددا من الحدود الشرعية من مثل حد الزنا، وحد القذف، وضوابط درء الشبهات كاللعان وغيرها، وذلك صونا للمجتمعات الإنسانية من الفساد والإباحية والفوضي واختلاط الأنساب.
وقد سميت السورة باسم سورة النور لورود الإشارة في الآية الخامسة والثلاثين منها إلي حقيقة أن الله تعالى هو نور السماوات والأرض. وتبدأ السورة الكريمة بتأكيد أنها من جوامع سور القرآن الكريم، التي أنزلها الله تعالى علي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم، وفرض فيها علي عباده فرائض ألزمهم بها، كما أنزل عددا من آياته البينات تذكرة للناس؛ ومن أول هذه الفرائض تحريم الزنا، ووضع الحدود الرادعة للواقعين فيه؛ وتبشيع هذه الجريمة بتأكيد علي أن... الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين؛ وتشير السورة إلي إشاعة فرية الإفك، وتجرم الخائضين فيها، وتبرئ المظلومين من دنسها، مؤكدة أن الله تعالى لايحب أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين.
وتحذر سورة النور من اتباع خطوات الشيطان، وتحض علي الإنفاق في سبيل الله، وتنهي عن الخوض في أعراض الناس، وعن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ وتؤكد أن ألسنة الخائضين في أعراض الناس وأيديهم وأرجلهم سوف تشهد عليهم يوم القيامة بما كانوا يعملون.
وتنهي سورة النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي أهلها، وتأمر بغض البصر، وحفظ الفرج، وستر العورات، وبالاحتشام وعدم التبرج بزينة، وتضع ضوابط الزواج، وتحرم البغاء واستغلال الجواري للكسب الدنيوي الرخيص من وراء هذه الجريمة غير الإنسانية وغير الأخلاقية، وتدعو إلي عتق رقاب الأرقاء، وإلي بناء المساجد، والقيام علي تطهيرها، وعمارتها، بيوتا لله في الأرض، ومنارات للهدي، ومراكز للدعوة إلي دين الله، يعبد فيها الله تعالى وحده بغير شريك ولا شبيه ولا منازع، ويسبح فيها المؤمنون بحمده صباح مساء، لا يشغلهم عن ذلك شيء من شواغل الدنيا وملهياتها، أو زخارفها، وزيناتها؛ وذلك طمعا في مرضاة الله، وتجنبا لسخطه وغضبه؛ وتحسبا لأهوال يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، وتبشرهم السورة الكريمة بأن الله تعالى سوف يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، فهو سبحانه يهب ما يشاء لمن يشاء، ولا حدود لعطائه.
وفي المقابل تؤكد سورة النور أن الكفار في الآخرة سوف يجدون أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا متصورين أنها أعمال نافعة وكأنها سراب خادع، لا قيمة له ولا وزن عند الله الذي سوف يوفيهم حسابهم، والله سريع الحساب.
وتشبه السورة تخبط الكفار في ظلمات الشرك والكفر والضلال بالواقف في قاع بحر عميق وسط ظلمات متكاثفة تحدثها ظلمة كل من السحاب، والأمواج السطحية، والأمواج العميقة، فلا يكاد يري شيئا من حوله، وتقرر أنه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.
وتؤكد الآيات أن جميع من في السماوات والأرض يسبح لله الذي له ملك السماوات والأرض وملك كل شيء وإليه المصير، وتصف مراحل تكون السحب الركامية وما يصاحبها من إزجاء، وتأليف وركم، وإنزال لما فيها من ماء وثلج وبرد، وحدوث للبرق، وتشير إلي تبادل الليل والنهار، وإلي خلق كل دابة من ماء، وإلي عدد من الوسائط التي تتحرك بها تلك الدواب، وكلها من الدلائل البينة علي طلاقة القدرة الإلهية.
وتحذر سورة النور من النفاق والمنافقين، وتفضح دخائل نفوسهم، وما جبلوا عليه من الكذب، والمكر، والاحتيال، والحنث في الأيمان، ونقض العهود والمواثيق، تماما كما يفعل الصهاينة المجرمون اليوم، وتقارن بين مواقف كل من المنافقين والمؤمنين، وتأمرهم بطاعة الله ورسوله فإن أعرضوا فما علي الرسول إلا البلاغ. وتؤكد سورة النور أن وعد الله قائم للذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضي لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ما داموا يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئا، وأن... من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. وتعاود الآيات الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم خاصة في الأمر بالجهاد في سبيل الله، مؤكدة أن الذين كفروا ليسوا بمعجزين في الأرض، وأن مأواهم النار وبئس المصير، كما تعاود إلي المزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم، وفي حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو نموذج للتعامل مع أية قيادة إسلامية وتجعل هذا الأدب في التعامل من صفات المؤمنين الملتزمين بأوامر الله ورسوله، وتحذر من مخالفة تلك الأوامر درءا لفتن الدنيا وعذاب الآخرة.
وتختتم سورة النور بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض، وأنه تعالى عليم بما في قلوب خلقه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنهم جميعا سوف يرجعون إليه فينبئهم بما فعلوا في الدنيا ويجازيهم بأعمالهم.
والآيات الكونية التي استشهدت بها سورة النور علي صدق ما جاء بها من حقائق وأحكام آيات عديدة منها ما يلي:
(1) حقيقة أن الله تعالى هو نور السماوات والأرض، وضرب المثل لهذا النور بتشبيه علمي دقيق ولله المثل الأعلي.
(2) التشبيهات الدقيقة بظواهر السراب، وبالظلمات المركبة فوق قيعان البحار العميقة، وبحقيقة أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
(3) تأكيد حقيقة تسبيح كل ما في السماوات والأرض لله.
(4) وصف تكون السحب الركامية والظواهر المصاحبة لتكوينها بدقة بالغة، ونسبة ظاهرة البرق إلي البرد، وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا في أواخر القرن العشرين.
(5) تبادل تقليب الليل والنهار.
(6) خلق كل دابة من ماء.
(7) الإشارة إلي إمكانية تصنيف الدواب علي أساس من طريقة مشيها.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة، ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي إنزال البرد من السحب الركامية، وعلاقة ذلك بحدوث ظاهرة البرق، وقبل الولوج في ذلك لابد من استعراض لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني المعجز.