فصل: تفسير الآيات (45- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (45- 46):

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر أولًا أحوال الخافقين دليلًا على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلًا ظاهرًا على الإعادة، وبرهانًا قاهرًا على المنكرين لها فقال: {والله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دآبة} أي مما تقدم أنه يسبح له.
ولما ذكر أنواعًا من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: {من ماء} أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء هامر كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه {فمنهم} أي الدواب.
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: {من يمشي على بطنه} أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشيًا استعارة ومشاكلة {ومنهم من يمشي على رجلين} أي ليس غير {ومنهم من يمشي على أربع} أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {يخلق الله} وعبر باسم الجلالة إعلامًا بتناهي العظمة؛ وقال: {ما يشاء} دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: {إن الله} أي الذي الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير}.
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقامت أدلة الوحدانية على ساق، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق، قال مترجمًا لتلك الأدلة: {لقد أنزلنا} أي في هذه السورة وما تقدمها، بما لنا من العظمة {آيات} أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق، لأن الله قد أراد هدايتكم، بعضكم بالبيان، وبعضكم بخلق الإذعان {والله} أي الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من العابد كلهم {إلى صراط مستقيم} بالقوة بإنزال الآيات، والفعل بخلق الإيمان والإخبات، فيؤمنون إيمانًا ثابتًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الدلائل على الوحدانية وذلك لأنه لما استدل أولًا بأحوال السماء والأرض وثانيًا بالآثار العلوية استدل ثالثًا بأحوال الحيوانات، واعلم أن على هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قال الله تعالى: {الأبصار والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاءٍ} مع أن كثيرًا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء؟ أما الملائكة فهم أعظم الحيوانات عددًا وهم مخلوقون من النور، وأما الجن فهم مخلوقون من النار، وخلق الله آدم من التراب لقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وخلق عيسى من الريح لقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وأيضًا نرى أن كثيرًا من الحيوانات متولد لا عن النطفة والجواب من وجوه: أحدها: وهو الأحسن ما قاله القفال وهو أن قوله: {مِّن مَّاءٍ} صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق، والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وثانيها: أن أصل جميع المخلوقات الماء على ما يروى أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء لا جرم ذكره على هذا الوجه وثالثها: أن المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة والجن، ولما كان الغالب جدًا من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء، إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكل تنزيلًا للغالب منزلة الكل.
السؤال الثاني: لم نكر الماء في قوله: {مِّن مَّاءٍ} وجاء معرفًا في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} [الأنبياء: 30] والجواب: إنما جاء هاهنا منكرًا لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة، وإنما جاء معرفًا في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَيّ} لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة.
السؤال الثالث: قوله: {فَمِنْهُمْ} ضمير العقلاء وكذلك قوله: {مَّن} فلم استعمله في غير العقلاء؟ والجواب: أنه تعالى ذكر ما لا يعقل مع من يعقل وهم الملائكة والإنس والجن فغلب اللفظ اللائق بمن يعقل، لأن جعل الشريف أصلًا والخسيس تبعًا أولى من العكس، ويقال في الكلام: من المقبلان؟ لرجل وبعير.
السؤال الرابع: لم سمى الزحف على البطن مشيًا؟ ويبين صحة هذا السؤال أن الصبي قد يوصف بأنه يحبو ولا يقال إنه يمشي وإن زحف على حد ما تزحف الحية والجواب: هذا على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر أو على طريق المشاكلة لذلك الزاحف مع الماشين.
السؤال الخامس: أنه لم يستوف القسمة لأنا نجد ما يمشي على أكثر من أربع مثال العناكب والعقارب والرتيلات بل مثل الحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلًا الذي يسمى دخال الأذن والجواب: القسم الذي ذكرتم كالنادر فكان ملحقًا بالعدم ولأن الفلاسفة يقرون بأن ما له قوائم كثيرة فاعتماده إذا مشى على أربع جهاته لا غير فكأنه يمشي على أربع، ولأن قوله تعالى: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ} كالتنبيه على سائر الأقسام.
السؤال السادس: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ والجواب: قد قدم ما هو أعجب وهو الماشي بغير آله مشى من أجل أو قوائم ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع، واعلم أن قوله: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ} تنبيه على أن الحيوانات كما اختلفت بحسب كيفية المشي فكذا هي مختلفة بحسب أمور أخر، فلنذكر هاهنا بعض التقسيمات:
التقسيم الأول: الحيوانات قد تشترك في أعضاء وقد تتباين بأعضاء، أما الشركة فمثل اشتراك الإنسان والفرس في أن لهما لحمًا وعصبًا وعظمًا، وأما التباين فإما أن يكون في نفس العضو أو في صفته، أما التباين في نفس العضو فعلى وجهين: أحدهما: أن لا يكون العضو حاصلًا للآخر، وإن كانت أجزاؤه حاصلة للثاني كالفرس والإنسان، فإن الفرس له ذنب والإنسان ليس له ذنب ولكن أجزاء الذنب ليست إلا العظم والعصب واللحم والجلد والشعر، وكل ذلك حاصل للإنسان والثاني: أن لا يكون ذلك العضو حاصلًا للثاني لا بذاته ولا بأجزائه مثل أن للسلحفاة صدفًا يحيط به وليس للإنسان ذلك وكذا للسمك فلوس وللقنفذ شوك وليس شيء منها للإنسان وأما التباين في صفة العضو، فإما أن يكون من باب الكمية أو الكيفية أو الوضع أو الفعل أو الانفعال، أما الذي في الكم، فإما أن يتعلق بالمقدار مثل أن عين البوم كبيرة وعين العقاب صغيرة أو بالعدد مثل أن أرجل ضرب من العناكب ستة وأرجل ضرب آخر ثمانية أو عشرة، والذي في الكيف فكاختلافها في الألوان والأشكال والصلابة واللين، والذي في الوضع فمثل اختلاف وضع ثدي الفيل فإنه يكون قريبًا من الصدر وثدي الفرس فإنه عند السرة.
وأما الذي في الفعل فمثل كون أذن الفيل صالحًا للذب مع كونه آلة للسمع وليس كذلك في الإنسان وكون أنفه آلة للقبض دون أنف غيره.
وأما الذي في الانفعال فمثل كون عين الخفاش سريعة التحير في الضوء وعين الخطاف بخلاف ذلك.
التقسيم الثاني: الحيوان إما أن يكون مائيًا بمعنى أن مسكنه الأصلي هو الماء أو أرضيًا أو يكون مائيًا ثم يصير أرضيًا، أما الحيوانات المائية فتغير أحوالها من وجوه: الأول: أنه إما أن يكون مكانه وغذاؤه ونفسه مائيًا فله بدل التنفس في الهواء التنشق المائي فهو يقبل الماء إلى باطنه ثم يرده ولا يعيش إذا فارقه، والسمك كله كذلك ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي ولكنه يتنفس من الهواء مثل السلحفاة المائية، ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي وليس يتنفس ولا يستنشق مثل أصناف من الصدف لا تظهر للهواء ولا تستدخل الماء إلى باطنها الوجه الثاني: الحيوانات المائية بعضها مأواها مياه الأنهار الجارية وبعضها مياه البطائح مثل الضفادع وبعضها مأواها مياه البحر الوجه الثالث: منها لجية ومنها شطية ومنها طينية ومنها صخرية الوجه الرابع: الحيوان المنتقل في الماء منه ما يعتمد في غوصه على رأسه وفي السباحة على أجنحته كالسمك ومنه ما يعتمد في السباحة على رجليه كالضفدع ومنه ما يمشي في قعر الماء كالسرطان ومنه ما يزحف مثل ضرب من السمك لا جناح له وكالدود، أما الحيوانات البرية فتغير أحوالها أيضًا من وجهين: الأول: أن منها ما يتنفس من طريق واحد كالفم والخيشوم ومنها ما لا يتنفس كذلك بل على نحو آخر من مسامه مثل الزنبور والنحل الثاني: أن الحيوانات الأرضية منها ما له مأوى معلوم، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة واللواتي لها مأوى فبعضها مأواه شق وبعضها حفر وبعضها مأواه قلة رابية وبعضها مأواه وجه الأرض الثالث: الحيوان البري كل طائر منه ذو جناح فإنه يمشي برجليه، ومن جملة ذلك ما مشيه صعب عليه كالخطاف الكبير الأسود والخفاش.
وأما الذي جناحه جلد أو غشاء فقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات الحبشية يطير الرابع: الطير يختلف فبعضها يتعايش معًا كالكراكي وبعضها يؤثر التفرد كالعقاب وجميع الجوارح التي تتنازع على الطعم لاحتياجها إلى الاحتيال لتصيد ومنافستها فيه، ومنها ما يتعايش زوجًا ويكون معًا كالقطا، ومنه ما يجتمع تارة وينفرد أخرى والحيوانات المنفردة قد تكون مدنية وقد تكون برية صرفة وقد تكون بستانية والإنسان من بين الحيوان هو الذي لا يمكنه أن يعيش وحده فإن أسباب حياته ومعيشته تلتئم بالمشاركة المدنية والنحل والنمل وبعض الغرانيق يشارك الإنسان في ذلك لكن النحل والكراكي تطيع رئيسًا واحدًا والنمل له اجتماع ولا رئيس الخامس: الطير منه آكل لحم ومنه لاقط حب ومنه آكل عشب، وقد يكون لبعض الطير طعم معين كالنحل فإن غذاءه زهر والعنكبوت فإن غذاءه الذباب وقد يكون بعضه متفق الطعم أما القسم الثالث: وهو الحيوان الذي يكون تارة مائيًا، وأخرى بريًا فيقال إنه حيوان يكون في البحر ويعيش فيه ثم إنه يبرز إلى البر ويبقى فيه.
التقسيم الثالث: الحيوان منه ما هو إنسي بالطبع كالإنسان ومنه ما هو إنسي بالمولد كالهرة والفرس ومنه ما هو إنسي بالقسر كالفهد ومنه ما لا يأنس كالنمر والمستأنس بالقسر منه ما يسرع استئناسه ويبقى مستأنسًا كالفيل ومنه ما يبطىء كالأسد ويشبه أن يكون من كل نوع صنف إنسي وصنف وحشي حتى من الناس.
التقسيم الرابع: من الحيوان ما هو مصوت ومنه ما لا صوت له وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتًا إلا الإنسان، وأيضًا لبعض الحيوان شبق يشتد كل وقت كالديك ومنه عفيف له وقت معين.
التقسيم الخامس: بحسب الأخلاق بعض الحيوانات هادىء الطبع قليل الغضب مثل البقرة وبعضه شديد الجهل حاد الغضب كالخنزير البري وبعضها حليم خدوع كالبعير وبعضها رديء الحركات مغتال كالحية وبعضها جريء قوي شهم كبير النفس كريم الطبع كالأسد ومنها قوي مغتال وحشي كالذئب وبعضها محتال مكار رديء الحركات كالثعلب وبعضها غضوب شديد الغضب سفيه إلا أنه ملق متودد كالكلب وبعضها شديد الكيس مستأنس كالفيل والقرد وبعضها حسود متباه بجماله كالطاووس وبعضها شديد التحفظ كالجمل والحمار.
التقسيم السادس: من الحيوان ما تناسله بأن تلد أنثاه حيوانًا وبعضها ما تناسله بأن تلد أنثاه دودًا كالنحل والعنكبوت فإنها تلد دودًا، ثم إن أعضاءه تستكمل بعد وبعضها تناسله بأن تبيض أنثاه بيضًا.
واعلم أن العقول قاصرة عن الإحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على سبيل الكمال، ووجه الاستدلال بها على الصانع ظاهر لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع فذلك بالنسبة إلى الكل على السوية فاختصاص كل واحد من هذه الحيوانات بأعضائها وقواها ومقادير أبدانها وأعمارها وأخلاقها لابد وأن يكون بتدبير مدبر قاهر حكيم سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون.
وأحسن كلام في هذا الموضع قوله سبحانه: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء إِنَّ الله على كُلّ شيء قَدِيرٌ} لأنه هو القادر على الكل والعالم بالكل فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها، بل هو الذي يخلق ما يشاء ولا يمنعه منه مانع ولا دافع.
وأما قوله: {لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} فالأولى حمله على كل الأدلة والعبر، ولما كان القرآن كالمشتمل على كل ذلك صح أن يكون هو المراد.
أما قوله: {والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فاستدلال أصحابنا به كما تقدم والجواب: أجاب القاضي عنه بأن المراد يهدي من بلغه حد التكليف دون غيره، أو يكون المراد من أطاعه واستحق الثواب فيهديه إلى الجنة على ما تقدم في نظائره، وجوابنا عن هذا الجواب أيضًا كما تقدم في نظائره، والله أعلم. اهـ.