فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} قيلَ: إنَّ أَصْلَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قُلِبَ إلَى النَّارِ فَخُلِقَ مِنْهُ الْجِنُّ، ثُمَّ إلَى الرِّيحِ فَخُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْهَا، ثُمَّ إلَى الطِّينِ فَخُلِقَ آدَم مِنْهُ، وَذَكَرَ الَّذِي يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهُ كَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ تَكْفِي بِذِكْرِ الْأَرْبَعِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ}.
فيه قولان:
أحدهما: أن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن، وإلى النور فخلق منها الملائكة، وإلى الطين فخلق منه من خلق وما خلق، حكاه ابن عيسى.
الثاني: أنه خالق كل دابة من ماء النطفة، قاله السدي.
{فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحية والحوت.
{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رَجْلَينِ} الإِنسان والطير.
{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالمواشي والخيل، ولم يذكر ما يمشي، ولم يذكر ما يمشى على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع لأنه يعتمد في المشي على أربع. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
هذه آية اعتبار، وقرأ حمزة والكسائي {والله خالق كل} على الإضافة، وقرأ الجمهور {والله خلق كل} والدابة كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلًا أمامه قدمًا، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر:
دبيب قطا البطحاء في كل منهل

ويدخل في الحوت وفي الحديث: «دابة من البحر مثل الظرب» وقوله: {من ماء} قال النقاش أراد أمنية الذكور، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» الحديث، والمشي علي البطن للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإِنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب: {ومنهم من يمشي على أكثر} فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى لقول بذكر ما {يمشي على أربع} عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلًا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه وقوله: {آيات مبينات} يعم كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعه للعبرة وكل ما نص في كتابه من آية تنبيه وتذكير وأخبر تعالى أنه أنزل الآيات، ثم قيد الهداية إليها لأنها من قبله لبعض دون بعض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ}.
قرأ يحيى بن وَثّاب والأعمش وحمزة والكسائي {وَاللَّهُ خَالِقُ كلِّ} بالإضافة.
الباقون {خلق} على الفعل.
قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان.
أخبر الله عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى.
وقد قيل: إن {خلق} لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم؛ كما قال الله عز وجل: {الخالق البارئ} [الحشر: 24].
وفي الخصوص {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} وكذا {هو الذي خلقكم من نفس واحدة}.
فكذا يجب أن يكون {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ}.
والدّابة كل ما دَبَّ على وجه الأرض من الحيوان؛ يقال: دَبّ يَدِب فهو دابّ؛ والهاء للمبالغة وقد تقدم في البقرة.
{مِّن مَّاءٍ} لم يدخل في هذا الجنّ والملائكة؛ لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح: «أن الملائكة خُلقوا من نور والجنّ من نار» وقد تقدّم.
وقال المفسرون: {من ماء} أي من نُطْفة.
قال النقاش: أراد أَمْنِيَة الذكور.
وقال جمهور النَّظَرة: أراد أن خلْقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين؛ وعلى هذا يتخرّج قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غَزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» الحديث.
وقال قوم: لا يستثنى الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء؛ وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء؛ إذ أوّل ما خلق الله تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء.
قلت: ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} المشيُ على البطن للحيّات والحُوت، ونحوه من الدود وغيره.
وعلى الرِّجْلين للإنسان والطير إذا مشى.
والأربع لسائر الحيوان.
وفي مصحف أبَيّ {ومنهم من يمشي على أكثر} فعمّ بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسّرطان والخِشَاش؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع؛ لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مَشْيه إلى جميعها.
قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلًا بل هي محتاج إليها في تنقّل الحيوان، وهي كلّها تتحرك في تصرفه.
وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع.
وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشي على أكثر من أربع؛ كما وقع في مصحف أُبَيّ.
والله أعلم.
و{دَابّة} تشمل مَن يعقل وما لا يعقل؛ فغلّب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبَّد؛ ولذلك قال {فمنهم}.
وقال: {مَنْ يمشي} فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع؛ أي لولا أن للجميع صانعًا مختارًا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد؛ وهو كقوله: {يسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} [الرعد: 4].
{يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مما يريد خلقه {قَدِيرٌ}.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ والله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تقدم بيانه في غير موضع. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} أي كلَّ حيوانٍ يدبُّ على الأرض. وقرئ خالقُ كلِّ دابةٍ بالإضافة {مِن مَّاء} هو جزءُ مادتِه أو ماءٍ مخصوصٍ هو النُّطفةُ فيكون تنزيلًا للغالب منزلةَ الكلِّ لأنَّ من الحيوانات ما يتولَّد لا عن نُطفةٍ وقيل: من ماءٍ متعلِّق بدابةٍ وليست صلةً لخَلَقَ {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} كالحيَّةِ وتسمية حركتِها مشيًا مع كونِها زَحْفًا بطريقِ الاستعارةِ أو المُشاكلةِ {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ} كالإنسِ والطَّيرِ {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} كالنَّعمِ والوحش وعدمُ التَّعرضِ لما يمشي على أكثرَ من أربعٍ كالعناكبِ ونحوِها من الحشرات لعدمِ الاعتدادِ بها. وتذكيرُ الضَّميرِ في منهم لتغليبِ العُقلاءِ، والتَّعبير عن الأصنافِ بكلمة مَن ليوافقَ التَّفصيلُ الإجمالَ، والتَّرتيبُ لتقديم ما هُو أعرفُ في القُدرةِ {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} ممَّا ذُكر وممَّا لم يُذكرْ بسيطًا كان أو مركّبًا على ما يشاء من الصُّورَ والأعضاء والهيئات والحَرَكات والطَّبائعِ والقُوَى والأفاعيلِ مع اتِّحادِ العُنصرِ. وإظهارُ الاسم الجليل في موضعِ الإضمارِ لتفخيمِ شأنِ الخلقِ المذكورِ والإيذانِ بأنَّه من أحكامِ الأُلوهيَّةِ {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاءُ كما يشاءُ. وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر مع تأكيد استقلال الاستئنافِ التعليليِّ.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} أي لكلِّ ما يليقُ بيانُه من الأحكام الدِّينيةِ والأسرار التَّكوينيَّةِ {والله يَهْدِى مَن يَشَاء} أنْ يهديَه بتوفيقِه للنَّظرِ الصَّحيحِ فيها وإرشادِه إلى التَّأملِ في مطاويها {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى حقيقة الحقِّ والفوز بالجنَّةِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك، وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن يدخلون في عموم الدابة، ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقًا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت، والتاء فيها للنقل إلى الاسمية لا للتأنيث، وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش {خالق} اسم فاعل {كُلَّ دَابَّةٍ} بالجر بالإضافة {مِن مَّاء} هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي، وعلى الثاني للإفراد الشخصي.
وجوز أن يكون عليهما لذلك، وكلمة {كُلٌّ} على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء} [القصص: 57] لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة.
وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضًا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار، وادعى أيضًا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضًا وهو آدم وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه، وجوز أن يعتبر العموم في {كُلٌّ} ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث، وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روى أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق، وأيًا ما كان فمن متعلقة بخلق، وقال القفال واستحسنه الإمام: هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم {كُلٌّ} على ظاهره.
والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىّ} [الأنبياء: 30] لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصًا أو نوعًا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيًا مع كونها زحفًا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وإنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى، ويزيد ذلك حسنًا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] على رأي {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ} كالإنس والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} كالنعم والوحش.