فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطًا كان أو مركبًا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل.
وزعم الفلاسفة أن اعتماد ماله أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك.
وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنًا، وتذكير الضمير في {مِنْهُمْ} لتغليب العقلاء، وبنى على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضى، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في {كُلَّ دَابَّةٍ} وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في {مِنْ} الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط، وقد يقال: لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر.
وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة؛ ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازًا كما توهم، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية، والإظهار في قوله سبحانه: {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضًا مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} أي لكل ما يليق بيانه من الأكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات وَمَثَلًا مّنَ الذين خَلَوْاْ} [النور: 34] الآية، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر {إِلَيْكُمْ} هناك وعدم ذكره هنا.
{والله يَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققًا كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيدًا لأمرين: التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي.
والتجدد بكون الخبر فعليًا.
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله: {يخلق الله ما يشاء}.
وقرأ الجمهور {والله خلق كل دابة} بصيغة فعل المضي ونصب {كل}.
وقرأه الكسائي {والله خالق كل دابة} بصيغة اسم الفاعل وجر {كل} بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.
والدابة: ما دبّ على وجه الأرض، أي مشى.
وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مرادًا به الإنسان وغيره مرتين.
وتنكير {ماء} لإرادة النوعية تنبيهًا على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار.
وهذا بخلاف قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالًا ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله.
وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} [الأنبياء: 30].
و{من} ابتدائية متعلقة ب {خلق}.
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين، وهذا المشي زحفًا.
أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع.
وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.
وجملة: {يخلق الله ما يشاء} زيادة في العبرة، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا فهي جملة مستأنفة.
وجملة: {إن الله على كل شيء قدير} تعليل وتذييل.
ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلامًا مستقلًا بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل.
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء.
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل {أنزلنا} ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34].
ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] كما تقدم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {مبينات} بفتح الياء على صيغة اسم المفعول، أي بيَّنها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها.
وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان.
والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدِّر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
الدابة: كلّ ما يدبُّ على الأرض، سواء أكان إنسانًا أو أنعامًا أو وحشًا، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب.
وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر، وقد يُضخَّم تضخيمًا لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه، وقد يَصْغُر تصغيرًا حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته.
ألاَ ترى أن ساعة بج بن أخذتْ شهرتها لضخامة حجمها، ثم جاء بعد ذلك مَنْ صنع الساعة في حجم فصِّ الخاتم، وفيها نفس الآلات التي في ساعة بج بن، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صِغَرها.. سبحان الخالق.
ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطًا مائيًا يعيش فيه.
وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنما هي ألوان وأشكال {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45].
والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكاني إلى حَيِّز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يُوضِّح لنا سبحانه أن المشْي أنواع: فمن الدوابِّ مَنْ يمشي على بطنه، ومنه مَنْ يمشي على رِجْليْن، ومنهم مَنْ يمشي على أربع.
وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بَسْطًا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلًا أن من الدواب مَنْ له أربع وأربعون مثلًا، وفي تنوع طُرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه.
لذلك قال بعدها: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ} [النور: 45] لأن الآية لم تستقْص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ} [النور: 45] تندرج مثلًا أُم أربعة وأربعين وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.
وكما سخر الله الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته، ألاَ ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلًا فينظفها له، إذن: فما في فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون، حتى إن الطير إنْ رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تُحدِث صوتًا لتنبه التمساح حتى ينجو.
ومن المشْيِ أيضًا السَّعْي بين الناس بالنميمة، كما قال تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11].
وبعد أن أعطانا الحق تبارك وتعالى الأدلة على أن المْلك له وحده، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور، وأنه تعالى خلق كُلَّ دابة من ماء، قال سبحانه: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}.
يعني: مَنْ ملك هذا الملْك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتبعوا هذه الآيات البينات.
ومعنى: {مُّبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] أي: لاستقامة حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأنْ يتحرك الجميع ويؤدي كُلٌّ مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالذي يُتعب الدنيا أن تبنى وغيرك يهدم.
إذن: لابد من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحثّ كل صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها، والإنسان غالبًا لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصصه، وربما لا يحسنها لنفسه؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجرًا، لذلك يقولون باب النجار مخلع أما إنْ عمل للآخرين فإنه يُحسِن عمله ويتقن صنعته، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم، فتستقيم الأمور، فأحْسن ما في يدك للناس، يحسنْ لك الناسُ ما في أيديهم.
وقوله تعالى: {والله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46].
ولقائل أنْ يسأل: وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يُهْتد؟ وسبق أن قلنا: إن الهداية نوعان: هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة.
فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة، ويبين للكل أسباب الخير وسُبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمَنْ سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة.
فساعة تسمع: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108].
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
وقلنا: إن كلمة {أَنزَلْنَآ} [النور: 46] تشعر باحترام الشيء المنزّل؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العُلُو إلى الأدنى، فكأن ربك عز وجل حين يكلفك يقول لك: أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى عُلو السماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151].
أي: لا تضعوا لأنفسكم القوانين، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم هذه الحياة. اهـ.