فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَيَقُولُونَ ءامَنَّا بالله وبالرسول}.
شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروى عن الحسن نحوه، وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمى لذلك الفاروق، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعهاأياه وتقابضا فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي كرم الله تعالى وجهه: اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي: قد اشتريت ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت، وعلى هذا وما قبهل جميع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلًا والقاتل واحد منهم، وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك {وَأَطَعْنَا} أي وأطعنا الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي {ثُمَّ يتولى} أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك} أي من بعدما صدر عنهم من ادعاء الايمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم والطاعة لهما، وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرًا معتدًا به واجب المراعاة {وَمَا أُوْلَئِكَ} إشارة إلى القائلين {مِنَ} الخ وهم المنافقون جميعهم لا إلى الفريق المتولى منهم فقط، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الايمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل {بالمؤمنين} أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه، ونفي الايمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم، وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فرق منافقون، وضمير {يَقُولُونَ} للمؤمنين مطلقًا، والحكم على أولئك الفريق بنفي الايمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم، و{ثُمَّ} على هذا حسبما قرره الطيبي للاستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز، وعلى الأول حسبما قرره أيضًا للتراخي في الرتبة إيذانًا بارتفاع درجة كفر الفريق المتولى عنهم انحطاط درجة أولئك.
وفي الكشف أن الكلام على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتوفي وحده كالاستدراك وفيه دلاله على توغل المتولين في الكفر وأصل الكفر وشامل للطائفتين، وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولين فائدة {ثُمَّ} استبعاد التولي بعد تلك المقالة، وفائدة الأخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل: يقولون هذا يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى، وعليه فضمير {يَقُولُونَ} للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقًا على الوجهين فتأمل.
{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وبين خصومهم، وضمير {يُحْكِمُ} للرسول عليه الصلاة والسلام، وجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى ما يفهم من الكلام أي المدعو إليه وهو شامل لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لكن المباشر للحكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم الله عز وجل فقد قالوا: إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى: {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} [البقرة: 9] أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر، وضمير {دَّعَوَا} يعود إلى ما يعود إليه ضمير {يَقُولُونَ} [النور: 47] أي وإذا دعى المنافقون أو المؤمنون مطلقًا {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام لكون الحق عليهم وعلمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق، والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الاسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والاستمرار على ما هو المشهور، والتعبير {ببينهم} دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر: اذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف، وقيل: هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر، ولذا قال سبحانه: لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث.
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر {يَأْتُواْ إِلَيْهِ} أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم {مُذْعِنِينَ} منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يحكم لهم، والظاهر تعلق إلى بيأتوا.
وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة، وتقديم المعمول للاختصاص أو للفاصلة أولهما، وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضًا ذم لهم.
{أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}.
ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل: أسبب أعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا نظير قولك: أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول: هجر الحبيب مثلًا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضًا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدًا وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية، وقوله تعالى: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل: ليس شيء ما ذكر سببًا لذلك الإعراض، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببًا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضًا، وأما الثالث فلانتفائه رأسًا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلًا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق عليهم، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين هو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما، وفي الثالث هو الأصل والوصل جميعًا، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة، و{أَمْ} عليه متصلة وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم تقسيمًا لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث أنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق لهم على غير، والثاني جعله إضرابًا عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول، وقال: وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققًا أو متوقعًا وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم ثم قال: وكلاهما باطلان فتعين الأول أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف.
وقال العلامة الطيبي الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل: دع التقسيم فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل، ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال: أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف، ووجه الإضراب أن كلًا مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصًا، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليها في الإقرار بها عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله:
ألست من القوم الذين تعاهدوا ** على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

وقوله:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولًا، وتقديم {عَلَيْهِمْ} على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم الله تعالى، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}.
عطف جملة: {ويقولون} على جملة: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [النور: 46] لما تتضمنه جملة: {يهدي من يشاء} من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى: {من يشاء}.
وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق.
فبعد أن ذُكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفارُ الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} [النور: 39] الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها.
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور: 37].
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة وفريقًا لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علنًا.
ففي قوله: {يقولون} إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخللِ الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14].
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتُها في سورة البقرة.