فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

نظير قوله: {الله نُورُ السماوات والأرض} مع قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} و{يَهْدِى الله لِنُورِهِ} قولك زيد كرم وجود ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السماوات و{نُورُ السماوات والأرض} الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] أي من الباطل إلى الحق.
وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وجاز أن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به {مَثَلُ نُورِهِ} أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي سراج ضخم ثاقب {المصباح في زُجَاجَةٍ} في قنديل من زجاج شامي بكسر الزاي {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} مضيء بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهوته بأحد الكواكب الدراري كالمشتري والزهرة ونحوهما {يُوقَدُ} {توقد} بالتخفيف: حمزة وعلي وأبو بكر الزجاجة و{يُوقَدُ} بالتخفيف: شامي ونافع وحفص {وتوقد} بالتشديد: مكي وبصري أي هذا المصباح {مِن شَجَرَةٍ} أي ابتدأ ثقوبه من زيت شجرة الزيتون يعني رويت ذبالته بزيتها {مباركة} كثيرة المنافع أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين.
وقيل: بارك فيها سبعون نبيًا منهم إبراهيم عليه السلام {زَيْتُونَةٍ} بدل من {شجرة} نعتها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي منبتها الشام يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام وأجود الزيتون زيتون الشام.
وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعها فهي شرقية وغربية.
{يَكَادُ زَيْتُهَا} دهنها {يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} وصف الزيت بالصفاء والوميض وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار {نُّورٌ على نُورٍ} أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه.
والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معاين ولا مشهود فأبو تمام لما قال في المأمون:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس

قيل له: إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلًا:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلًا شرودًا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلًا من المشكاة والنبراس

{يَهْدِى الله لِنُورِهِ} أي لهذا النور الثاقب {مَن يَشَاء} من عباده أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} تقريبًا إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فيبين كل شيء بما يمكن أن يعلم به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن.
وقرأ ابن مسعود رحمه الله {مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة} وقرأ أبيّ {مثل نور المؤمن}.
{فِى بُيُوتٍ} يتعلق {بمشكاة} أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو ب {توقد} أي توقد في بيوت، أو ب {يسبح} أي يسبح له رجال في بيوت.
و{فيها} تكرير فيه توكيد نحو زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف أي سبحوا في بيوت {أَذِنَ الله} أي أمر {أَن تُرْفَعَ} تبنى كقوله: {بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] أن تعظم من الرفعة.
وعن الحسن: ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} يتلى فيها كتابه أو هو عام في كل ذكر {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} أي يصلي له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين.
وإنما وحد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات والآصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي {رِجَالٌ} فاعل {يسبح} {يسبح} شامي وأبو بكر ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو و{رِجَالٌ} مرفوع بما دل عليه {يسبح} أي يسبح له {لاَّ تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم {تجارة} في السفر {وَلاَ بَيْعٌ} في الحضر.
وقيل: التجارة الشراء إطلاقًا لاسم الجنس على النوع أو خص البيع بعد ماعم لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء لأن الربح في البيعة الرابحة متيقن وفي الشراء مظنون {عَن ذِكْرِ الله} باللسان والقلب {وَإِقامِ الصلاة} أي وعن إقامة الصلاة.
التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل إقوام، فلما قلبت الواو ألفًا اجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فأدخلت التاء عوضًا عن المحذوف، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت {وَإِيتاء الزكاة} أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة.
{يخافون يَوْمًا} أي يوم القيامة و{يخافون} حال من الضمير في {تلهيهم} أو صفة أخرى ل {رجال} {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب} ببلوغها إلى الحناجر {والأبصار} بالشخوص والزرقة أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان كقوله: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22].
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يسبحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفًا ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلًا {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يثيب من يشاء ثوابًا لا يدخل في حساب الخلق.
هذه صفات المهتدين بنور الله فأما الذين ضلوا عنه فالمذكورون في قوله: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ} هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري {بِقِيعَةٍ} بقاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار {يَحْسَبُهُ الظمان} يظنه العطشان {مَاءً حتى إِذَا جَاءهُ} أي جاء إلى ما توهم أنه ماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} كما ظنه {وَوَجَدَ الله} أي جزاء الله كقوله: {يجد الله غفورًا رحيمًا} [النساء: 110] أي يجد مغفرته ورحمته {عِندَهُ} عند الكافر {فوفاه حِسَابَهُ} أي أعطاه جزاء عمله وافيًا كاملًا.
وحد بعد تقدم الجمع حملًا على كل واحد من الكفار {والله سَرِيعُ الحساب} لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ولا يشغله حساب عن حساب، أو قريب حسابه لأن ما هو آتٍ قريب شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يترهب ملتمسًا للدين في الجاهلية فلما جاء الإسلام كفر.
{أَوْ كظلمات في بَحْرٍ} {أو} هنا ك {أو} في {أَوْ كَصَيّبٍ} {لُّجّىّ} عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر {يغشاه} يغشى البحر أو من فيه يعلوه ويغطيه {مَوْجٍ} هو ما ارتفع من الماء {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق الموج موج آخر {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} من فوق الموج الأعلى سحاب {ظلمات} أي هذه ظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} أي الواقع فيه {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلًا عن أن يراها، شبه أعمالهم أولًا في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجد من خدعه من بعيد شيئًا ولم يكفه خيبة وكمدًا أن لم يجد شيئًا كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، وشبهها ثانيًا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} من لم يهده الله لم يهتد عن الزجاج في الحديث: «خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم يا محمد علمًا يقوم مقام العيان في الإيقان {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن في السماوات والأرض والطير} عطف على {من} {صافات} حال من {الطير} أي يصففن أجنحتهن في الهواء {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} الضمير في {علم} {كل} أو لله، وكذا في صلاته وتسبيحه.
والصلاة الدعاء ولم يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لايكاد العقلاء يتهتدون إليها {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} لا يعزب عن علمه شيء.
{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} لأنه خالقهما ومن ملك شيئًا فبتمليكه إياه {وإلى الله المصير} مرجع الكل {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى} يسوق إلى حيث يريد {سَحَابًا} جمع سحابة دليله {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} وتذكيره للفظ أي يضم بعضه إلى بعض {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} متراكمًا بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل {وَيُنَزّلُ} {وينزل} مكي ومدني وبصري {مّنَ السماء} لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء {مِن جِبَالٍ} {من} للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي {فِيهَا} في السماء {مِن بَرَدٍ} للبيان أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها.
وعلى الأول مفعول {ينزل} {من جبال} أي بعض جبال فيها ومعنى {من جبال فيها من برد} أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر أو يريد الكثرة بذكر الجبال كما يقال فلان يملك جبالًا من ذهب {فَيُصِيبُ بِهِ} بالبرد {مَن يَشَاء} أي يصيب الإنسان وزرعه {وَيَصْرِفُهُ عَمَّن مَا يَشَاء} فلا يصيبه أو يعذب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوؤه {يَذْهَبُ بالأبصار} يخطفها به {يَذْهَبُ} يزيد على زيادة الباء.
{يُقَلّبُ الله الليل والنهار} يصرفهما في الاختلاف طولًا وقصرًا والتعاقب {إِنَّ في ذَلِكَ} في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار {لَعِبْرَةً لأَِوْلِى الأبصار} لذوي العقول.
وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر، فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل واضحة على صفاته لمن نظر وتدبر.
ثم بين دليلًا آخر فقال تعالى.
{والله خَلَقَ كُلَّ} {خالق كل} حمزة وعلي {دَابَّةٍ} كل حيوان يدب على وجه الأرض {مِن مَّاء} أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام ومنها بهائم ومنها أناسي وهو كقوله: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} [الرعد: و] هذا دليل على أن لها خالقًا ومدبرًا وإلا لم تختلف لإتفاق الأصل.