فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}.
عطف على جملة: {ويقولون ءامنا بالله وبالرسول} [النور: 47].
أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه.
قال ابن عطية: وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله.
وقال القرطبي: لما بيّن كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا.
فنزلت هذه الآية.
وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجيْن.
وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذٍ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد.
واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجُنّ من أموالهم وديارهم.
واقتصر الطبري على أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول.
والإقسام: النطق بالقسم، أي اليمين.
وضمير {أقسموا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {ويقولون} [النور: 47].
والتعبير بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى.
والجَهْد بفتح الجيم وسكون الهاء منتهى الطاقة.
ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي «فغَطْني حتى بلغ منِّي الجَهْد» لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة.
وهو مصدر {جَهَد} كمنع متعديًا إذا أتعب غيره.
ونَصْبُ {جهد أيمانهم} يجوز أن يكون على الحال من ضمير {أقسموا} على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]، أي جاهدين.
والتقدير: جاهدين أنفسهم، أي بالغين بها أقصى الطاقة وهذا على طريقة التجريد.
ومعنى ذلك: أنهم كرّروا الأيمان وعدّدوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم.
وإضافة {جهد} إلى {أيمانهم} على هذا الوجه إضافة على معنى من، أي جهدًا ناشئًا عن أيمانهم.
ويجوز أن يكون {جهد} منصوبًا على المفعول المطلق الواقع بدلًا من فعله.
والتقدير: جَهَدوا أيمانهم جَهدًا.
والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير {أقسموا}.
والتقدير: أقسموا يَجْهَدون أيمانهم جهدًا.
وإضافة {جهد} إلى {أيمانهم} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جَهد، ففيه استعارة مكنية، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحدًا يجهده، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له، فهذا أيضًا استعارة.
وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم}.
في سورة العقود (53) وقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية} في سورة الأنعام (109).
وجملة: {لئن أمرتهم} الخ بيان لجملة: {أقسموا}.
وحذف مفعول {أمرتهم} لدلالة قوله: {ليخرجن}.
والتقدير: لئن أمرتهم بالخُروج ليَخرُجن.
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المَعَاني الكثيرة وهي {لا تقسموا طاعة معروفة}.
وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهيًا عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته، بمعنى: لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذبًا.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملًا في معنى عدم المطالبة بالقسم، أي ما كان لكم أن تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملًا في التسوية مثل {اصبروا أوْ لاَ تصْبروا سواء عليكم} [الطور: 16].
ويحتمل أن يكون النهي مستعملًا في حقيقته والمُقسم عليه محذوف، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك.
ومقام مواجهة نفاقهم يقتضي أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة.
وقوله: {طاعة معروفة} كلام أُرسِل مثلًا وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله: {لا تقسموا}.
وتنكير {طاعة} لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب: تمرة خير من جَرادة، و{معروفة} خبره.
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملًا في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة، أي معروف وهنها وانتفاؤها.
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى: لماذا تقسمون أفَأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي، أي أعرف عدم وقوعها، والكلام تهكم أيضًا.
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى: قسَمُكُم ونفيُه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة.
أو يكون {طاعة} مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أوْلَى من الأيمان، ويَكون وصف {معروفة} مشتقًا من المعرفة بمعنى العلم، أي طاعة تُعلم وتُتحقق أوْلى من الأيمان على طاعة غير واقعةٍ، وهو كالعرفان في قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وإن كان النهي مستعملًا في حقيقته فالمعنى: لا تقسموا هذا القسمَ، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف، فيكون وصف {معروفة} مشتقًا من العرفان، أي عدم النكران كقوله تعالى: {ولا يعصِينَك في معروف} [الممتحنة: 12].
وجملة: {إن الله خبير بما تعملون} صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة، وهي تعليل لما قبلها.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يَرُدّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذبًا، ويختلف معنى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم.
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلامًا مستقلًا غير معطوف.
وقوله: {فإن تولوا} يجوز أن يكون تفريعًا على فعل {أطيعوا} فيكونّ فعلُ {تولوا} من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلًا مضارعًا بتاء الخطاب.
وأصله: تَتَولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال.
والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم، فيكون ضميرًا ف {عَلَيْه ما حُمِّلَ} عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون تفريعًا على فعل {قل} أيْ فإذا قلت ذلك فَتَوَلَّوْا ولم يطيعوا الخ، فيكون فعل {تولوا} ماضيًا بتاء واحدة مُواجَهًا به النبي صلى الله عليه وسلم أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حُمِّلْتَ من التبليغ وعليهم ما حُمِّلوا من تَبِعَة التكليف.
كمعنى قوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} في سورة النحل (82) فيكون في ضمائر {فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} التفاتٌ.
وأصل الكلام: فإنما عليك ما حُملتَ وعليهم ما حُمِّلوا.
والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة.
وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين: معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم وموادعة لهم.
وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم.
ونظيره قوله في سورة آل عمران (23- 32): {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب} هم اليهود {يُدعَوْن إلى كتاب الله} إلى قوله: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تَولوا فإن الله لا يحب الكافرين}.
واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 4] وقوله: {ولا تَيمموا الخبيثَ منه تنفقون} [البقرة: 267] وقوله: {ولا تَولوا عنه وأنتم تسمعون} في سورة الأنفال (20)، وأما قوله تعالى في سورة القتال (38): {وإن تتولّوا يستبدل قومًا غيركم} فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران.
والبلاغ: اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية.
ومعنى كونه مبينًا أنه فصيح واضح.
وجملة: {وإن تطيعوه تهتدوا} إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله: {وعليكم ما حملتم} بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد.
وجملة {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} بيان لإبهام قوله: {ما حمل}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}.
القَسَم: هو اليمين والحَلِف، والإنسان يُقسم ليؤكد المقسَم عليه يريد أن يطمئن المخاطب على أن المقسَم عليه حَقٌّ، وهؤلاء لم يقسموا بالله سِرًا في أنفسهم، إنما {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53] يعني: بَالَغوا وأتَوْا بمنتهى الجهد في القسم، فلم يقل أحدهم: وحياة أمي أو أبي، إنما أقسموا بالله، وليس هناك قَسَم أبلغ من هذا القسم، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت».
فلما أقسموا بالله للرسول أنْ يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله فضح الله سرائرهم، وكشف سترهم، وأبان عن زيف نواياهم، كما قال في آية أخرى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} [النساء: 81].
وتأمل دقَّة الأداء القرآني في: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 81] وهذا احتياط؛ لأن منهم أُنَاسًا يراود الإيمان قلوبهم ويفكرون في أنْ يُخلِصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى، ويعودوا إلى الإسلام الصحيح.
والقرآن يفضح أمر هؤلاء الذي يُقسِمون عن غير صِدْق في القَسَم، كمن تعوَّد كثرة الحَلِف والحِنْث فيه؛ لذلك ينهاهم عن هذا الحَلِف: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} [النور: 53] ولا يمكن أن ينهي المتكلمُ المخاطبَ عن القسم خصوصًا إذا أقسم على خير، لكن هؤلاء حانثون في قَسَمهم، فهو كعدمه، فهم يُقسِمون باللسان، ويخالفون بالوجدان.
وقوله تعالى: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} [النور: 53]. يُشعِر بتوبيخهم، كأنه يقول لهم: طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة، فهي طاعة باللسان فحسب، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53] والذي يؤكد هذه الخبرة أنه يفضح قلوبهم ويفضح نواياهم.
والعجيب أنهم لا يعتبرون بالأحداث السابقة، ولا يتعظون بها، وقد سبق لهم أنه كان يجلس أحدهم يُحدِّث نفسه الحديث فيفضح الله ما في نفسه ويخبر به رسول الله، فيبلغهم بما يدور في نفوسهم، كما جاء في قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].