فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ م فِي الْأَرْضِ}.
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ م فِي الْأَرْضِ} فَوُجِدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ فِيهِمْ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَ لَهُمْ كَمَا جَاءَ الْوَعْدُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مُعَاوِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَتَضْيِيقِهِ عَلَيْهِمْ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ الْأَذَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ لَهُمْ، فَأَنْجَزَهُ اللَّهُ، وَمَلَّكَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ.
وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: مَكَثَ النَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو اللَّهَ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُمْسُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ، وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا لَا تَعْبُرُونَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مِنْ الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلَى آخِرِهَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدُ حَقٍّ وَقَوْلُ صِدْقٍ، يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَأُولَئِكَ مَقْطُوعٌ بِإِمَامَتِهِمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمْ.
وَصَدَقَ وَعْدُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ؛ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَصَدَقَ الْكَلَامُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ بِهِمْ يُنْجَزُ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ فَفِيمَنْ يَكُونُ إذَنْ؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ.
قَامَ أَبُو بَكْرٍ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَاتِّفَاقِ الْخَلْقِ، وَوَاضِحِ الْحُجَّةِ، وَبُرْهَانِ الدِّينِ، وَأَدِلَّةِ الْيَقِينِ، فَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَلَزِمَتْ الْخِلَافَةُ، وَوَجَبَتْ النِّيَابَةُ، وَتَعَيَّنَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، ثُمَّ جَعَلَهَا عُمَرُ شُورَى، فَصَارَتْ لِعُثْمَانَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَالتَّبْجِيلِ الصَّرِيحِ، وَالْمَسَاقِ الْفَسِيحِ؛ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَمْرَهُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَفْسَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ، فَاخْتَارَ عُثْمَانَ، وَمَا عَدَلَ عَنْ الْخِيَارِ، وَقَدَّمَهُ وَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى عَلِيٍّ.
ثُمَّ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا فِي نَفْسِهِ، مَظْلُومًا جَمِيعُ الْخَلْقِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَلِيٌّ أَخْذًا بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ، وَانْتِقَالًا مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الْأَوَّلِ، فَلَا إشْكَالَ لِمَنْ جَنَفَ عَنْ الْمُحَالِ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ كَمُلَتْ لِحَالِ أَبِي بَكْرٍ فَاتِحَةً وَخَاتِمَةً.
ثُمَّ كَمُلَتْ لِعُمَرَ، وَكُسِرَ الْبَابُ، فَاخْتَلَطَ الْخُشَارُ بِاللُّبَابِ، وَانْجَرَّتْ الْحَالُ مَعَ عُثْمَانَ وَاضِحَةً لِلْعُقَلَاءِ، مُعْتَرَضًا عَلَيْهَا مِنْ الْحَمْقَى، ثُمَّ نَفَذَ الْقَدَرُ بِقَتْلِهِ إيثَارًا لِلْخَلْقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ أَحْسَنَ قِيَامٍ لَوْ سَاعَدَهُ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ الْأُمُورَ نَشْرًا، وَمَا رَامَ رَتْقَ خَصْمٍ إلَّا انْفَتَقَ عَلَيْهِ خَصْمٌ، وَلَا حَاوَلَ طَيَّ مُنْتَشِرٍ إلَّا عَارَضَهُ عَلَيْهِ أَشِرُ، وَنُسِبَتْ إلَيْهِ أُمُورٌ هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنْ الدَّنَسِ، وَالْمَاءِ مِنْ الْقَبَسِ، وَطَالَبَهُ الْأَجَلُ حَتَّى غَلَبَهُ، فَانْقَطَعَتْ الْخِلَافَةُ، وَصَارَتْ الدُّنْيَا مِلْكًا تَارَةً لِمَنْ غَلَبَ، وَأُخْرَى لِمَنْ خَلَبَ، حَتَّى انْتَهَى الْوَعْدُ الصَّادِقُ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ.
أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فَبِحَدِيثِ سَفِينَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ حَمْدَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهَ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ».
قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسِكْ عَلَيْك، أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَعُمَرُ عَشْرًا، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٌّ كَذَا.
قَالَ سَعِيدٌ: قُلْت لِسَفِينَةَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً.
قَالَ: كَذَبْت اسْتَاءَهُ بَنُو الزَّرْقَاءِ يَعْنِي بَنِي مَرْوَانَ زَادَ فِي رِوَايَةٍ: اُعْدُدْ؛ أَبُو بَكْرٍ كَذَا، وَعُمَرُ كَذَا، وَعُثْمَانُ كَذَا، وَعَلِيٌّ كَذَا، وَالْحَسَنُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: لَا بَأْسَ، رَحِمَك اللَّهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ}.
وَنَزَلَتْ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
يَمْلِكُهَا بَعْدَك بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ.
قَالَ الْقَاسِمُ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ، لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَعْدُ يَصِحُّ لَكُمْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ، فَأَمَّا عُمَرُ فَأَيُّ أَمْنٍ مَعَهُ، وَقَدْ قُتِلَ غِيلَةً.
وَعُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ غَلَبَةً، وَعَلِيٌّ قَدْ نُوزِعَ بِالْجَنْبَةِ وَالْجَلَبَةِ.
قُلْنَا: هَذَا كَلَامٌ جَاهِلٍ غَبِيٍّ أَوْ مُتَهَاوِنٍ، يَكِنُّ عَلَى نِفَاقٍ خَفِيٍّ، أَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَجَاءَهُمَا أَجَلُهُمَا، وَمَاتَا مَيْتَتِهُمَا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمَا، وَلَيْسَ فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ، إنَّمَا مِنْ شَرْطِهِ مِلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْغَلَبَةِ الْمَشْحُونَةِ بِالذِّلَّةِ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ بِمَكَّةَ، فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَقَدْ آلُوا إلَى الْأَمْنِ وَالْعِزَّةِ.
فِي الصَّحِيحِ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّه لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيَمْشُطُهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمٍ مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فَصَارُوا قَاهِرِينَ، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَعَادُوا طَالِبِينَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ: إنَّ هَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ، فَأُرِيت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».
قُلْنَا لَهُمْ: هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ، وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ، وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، بِنَفَاذِ الْوَعْدِ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالٍ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ؛ وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ هَذِهِ الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: أَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ، وُعِدَتْ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا فِيهَا الْكُفَّارَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا».
مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ}.
فيه قولان:
أحدهما: يعني أرض مكة، لأن المهاجرين سألوا الله ذلك، قاله النقاش.
والثاني: بلاد العرب والعجم، قاله ابن عيسى.
روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ، إما يعزهم فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها».
{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فيه قولان:
أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام.
الثاني: داود وسليمان.
{وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين.
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْنًا} لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا، ومقهورين فقهروا.
{يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يعبدون إلهًا غيري، حكاه النقاش.
الثاني: لا يراءون بعبادتي أحدًا.
الثالث: لا يخافون غيري، قاله ابن عباس.
الرابع: لا يحبون غيري، قاله مجاهد.
قال الضحاك: هذه الآية في الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً». اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.
قرأ الجمهور: {استخلَف} على بناء الفعل للفاعل، وقرأ أبو بكر عن عاصم والأعرج: {استُخلِف} على بناء الفعل للمفعول، وروي أن سبب هذه الآية أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد عليه السلام، وقوله: {في الأرض} يريد في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم إليها، واستخلافهم هو أن يملكهم ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي العراق وخراسان والمغرب، وقال الضحاك في كتاب النقاش هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة».
قال الفقيه الإمام القاضي: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واللام في قوله: {ليستخلفنهم} لام القسم، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر {ليبَدّلنهم} بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والحسن وابن محيصن بسكون الباء وتخفيف الدال، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغبرون إلا قليلًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأِ العظيم محتبيًا ليس في حديدة»، وقوله: {يعبدونني} فعل مستأنف أي هم يعبدونني، قوله: {ومن كفر} يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير المخرج عن الملة، قال بعض الناس في كتاب الطبري ظهر ذلك في قتلة عثمان رضي الله عنه، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة وهو ظاهر قول حذيفة بن اليمان فإنه قال كان على عهد النبي نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان، ولما قدم تعالى شرط عمل الصالحات بينها في هذه الآية، فنص على عظمها وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعم بطاعة الرسول لأنها عامة لجميع الطاعات، و{لعلكم} معناه في حقكم ومعتقدكم، ثم أنحى القول على الكفرة بأن نبه على أنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله، وقرأ جمهور السبعة {لا تحسبن} بالتاء على المخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين، وقرأ حمزة وابن عامر {لا يحسبن} بالياء قال أبو علي، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير لا يحسبن محمد والآخر أن يسند الفعل إلى {الذين كفروا} والمفعول أنفسهم، وأعجز الرجل، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ثم أخبر بأن {مأواهم النار} وأنها بئس الخاتمة والمصير. اهـ.