فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقًا، وأنه يقال: بدّلته أي غيّرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره.
قال النحاس: وهذا القول صحيح؛ كما تقول: أبدِلْ لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره.
وتقول: قد بدّلت بعدنا، أي غيّرت؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر؛ والذي ذكره أكثر.
وقد مضي هذا في النساء والحمد لله، وذكرنا في سورة إبراهيم الدليلَ من السنة على أن بدل معناه إزالة العين؛ فتأمله هناك.
وقرىء {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا} [القلم: 32] مخففًا ومثقلًا.
{يَعْبُدُونَنِي} هو في موضع الحال؛ أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص.
ويجوز أن يكون استئنافًا على طريق الثناء عليهم.
{لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يعبدون إلها غيري؛ حكاه النقاش.
الثاني: لا يراءون بعبادتي أحدًا.
الثالث: لا يخافون غيري؛ قاله ابن عباس.
الرابع: لا يحبّون غيري؛ قاله مجاهد.
{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} أي بهذه النعم.
والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال تعالى: {فأولئك هُمُ الفاسقون} والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}.
تقدّم؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدًا.
قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ووعدٌ بالنصرة.
وقراءة العامة {تَحْسَبَنَّ} بالتاء خطابًا.
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حَيْوة {يَحْسَبَنَّ} بالياء، بمعنى لا يحسبنّ الذِين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض؛ لأن الحُسْبان يتعدّى إلى مفعولين.
وهذا قول الزجاج.
وقال الفراء وأبو عليّ: يجوز أن يكون الفعل للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحسبنّ محمد الذين كفروا معجزين في الأرض.
ف {الذين} مفعول أوّل، و{معجزين} مفعول ثان.
وعلى القول الأوّل {الذين كفروا} فاعل {أنفسهم} مفعول أوّل، وهو محذوف مراد {معجزين} مفعول ثان.
قال النحاس: وما علمت أحدًا من أهل العربية بَصْرِيًّا ولا كوفِيًّا إلا وهو يخطِّىء قراءة حمزة؛ فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبنّ.
وممن قال هذا أبو حاتم.
وقال الفراء: هو ضعيف؛ وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأوّل، وقد بيناه.
قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون {الذين كفروا} في موضع نصب.
قال: ويكون المعنى ولا يحسبنّ الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.
قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو عليّ؛ إلاّ أنّ الفاعل هناك النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي هذا القول الكافر.
و{معجزين} معناه فائتين وقد تقدّم.
{وَمَأْوَاهُمُ النار وَلَبِئْسَ المصير} أي المرجع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.
روي أن بعض الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل {وعد الله الذين آمنوا منكم}.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغبرون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس معه حديدة» قال ابن عباس: وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل.
والخطاب في {منكم} للرسول وأتباعه و{من} للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء.
وقوله: {في الأرض} هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا.
وفي الصحيح: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها» قال بعض العلماء: ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال.
قلت: ولاسيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند.
{كما استخلف الذين من قبلهم} أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة.
وقيل: هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وكان الغالب على الأرض المؤمنون.
وقرىء {كما استُخْلِفَ} مبنيًا للمفعول.
واللام في {ليستخلفنهم} جواب قسم محذوف، أي وأقسم {ليستخلفنهم} أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم.
وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول {وعد} محذوفًا تقديره استخلافكم وتمكين دينكم.
ودل عليه جواب القسم المحذوف.
وقال الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون» انتهى.
ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين، والمهتدين بالله في العباسيين.
{وليمكنن لهم دينهم} أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله.
و{الذي ارتضى لهم} صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية.
وقرأ الجمهور {وليبدلنهم} بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف.
وقال أبو العالية: لما أظهر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم.
{يعبدونني} الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل: ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال {يعبدونني} قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: {يعبدونني} فعل مستأنف أي هم {يعبدونني} ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال: ويجوز أن يكون مستأنفًا على طريق الثناء عليهم أي هم {يعبدونني}.
وقال الزمخشري: وإن جعلته حالًا عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى.
وقال الحوفي قبله.
وقال أبو البقاء: {يعبدونني} حال من {ليستخلفنهم} و{ليبدلنهم} {لا يشركون} بدل من {يعبدونني} أو حال من الفاعل في {يعبدونني} موحدين انتهى.
والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال: كان النفاق على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان.
قال ابن عطية: يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة.
قيل: ظهر في قتلة عثمان.
وقال الزمخشري: {ومن كفر} يريد كفران النعمة كقوله: {فكفرت بأنعم الله} {فأولئك هم الفاسقون} أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة.
والظاهر أن قوله: {وأقيموا} التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم.
وقال الزمخشري: {وأقيموا الصلاة} معطوف على {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه.
فاصل.
وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيدًا لوجوبها انتهى.
وقرأ الجمهور {لا تحسبن} بتاء الخطاب والتقدير، {لا تحسبن} أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول، وقالوا: هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام.
وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة، والتقدير لا يحسبن حاسب، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا: يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في {وأطيعوا الرسول} قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء.
وقال النحاس: ما علمت أحدًا من أهل العربية بصريًا ولا كوفيًا إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى.
وقال الفرّاء: هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم.
و{معجزين} المفعول الثاني.
وقال عليّ بن سليمان: {الذين كفروا} في موضع نصب قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر {الذين كفروا معجزين في الأرض}.
وقال الكوفيون: {معجزين} المفعول الأول.
و{في الأرض} الثاني قيل: وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في {الأرض} تعلقه بمعجزين، فلا يكون مفعولًا ثانيًا.
وخرج الزمخشري ذلك متبعًا قول الكوفيين.
فقال {معجزين في الأرض} هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدًا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد انتهى.
وقال أيضًا: يكون الأصل: لا يحسبنهم {الذين كفروا معجزين} ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى.
وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله: {لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا} في قراءة من قرأ بياء الغيبة، وجعل الفاعل {الذين يفرحون} وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائمًا على تقدير رفع زيد بظنه.
{ومأواهم النار} قال الزمخشري: عطف على {لا تحسبن} كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله {ومأواهم النار} والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى.
وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون {ومأواهم} متصلًا بقوله: {لا تحسن الذين كفروا معجزين في الأرض} بل هم مقهورون {ومأواهم النار} انتهى.
واستبعد العطف من حيث إن {لا تحسبن} نهي {ومأواهم النار} جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم.
ولما أحس الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضًا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه. اهـ.