فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

ثم يقول الحق سبحانه: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات}.
في أول الحديث عن سورة النور قلنا: إنها سُمِّيَتْ بالنور؛ لأنها تبين للناس النور الحسيّ في الكون، وتقيس عليه النور المعنوي في القيم، وما دُمْنا نطفىء أنوارنا الحسية حين يظهر نور الله في الشمس، يجب كذلك أن نطفىء أنوارنا المعنوية حين يأتينا شرع من الله.
فليس لأحد رَأْيٌ مع شرع الله؛ ذلك لأن الخالق عز وجل يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حِسِّيٍّ ومعنوي، ثم ضمن له مقومات بقاء حياته بالطعام والشراب شريطةَ أنْ يكون من حلال حتى تبنى خلاياه وتتكون من الحلال فيَسلم له جهاز الاستقبال عن الله وجهاز الإرسال إنْ أراد الدعاء.
وفي الحديث الشريف: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك؟».
فهذه أجهزة مُعطَّلة خَرِبة أشبه ما تكون بالراديو الذي لا يحسن استقبال ما تذيعه محطات الإذاعة، فالإرسال قائم يستقبله غيره، أما هو فجهاز استقباله غير سليم.
فإذا ضمنتَ سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضمن الله لك إجابة الدعاء، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «أطِبْ مَطْعمك تكُنْ مُسْتجاب الدعوة».
ثم ضمن الله للإنسان مُقوِّمات بقاء نوعه بالزواج لاستمرار الذرية لتستمر الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة، ثم تحدثتْ السورة مُحذِّرة إياكم أنْ تجترئوا على أعراض الناس، أو ترْمُوا المحصنات، أو تدخلوا البيوت دون استئذان، حتى لاتطّلعوا على عورات الناس.. إلخ.
فالحق سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع وسلامة الخلافة في الأرض، وكل هذه الأحكام والمعاني تصبُّ في هذه الآية:
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55]. فمَنْ فعل ذلك كان أَهْلًا للخلافة عن الله، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تُبيِّن الغَثَّ من السَّمين، أَلاَ ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يُعذَّبون ويُضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
وهؤلاء الصحابة هم الذي حملوا للدنيا مشاعلَ الهداية، وساحوا بدعوة الله في أنحاء الأرض، فلابد أن يُربوا هذه التربية القاسية، وأن يُمتحنوا كل هذا الامتحان، وهم يعلمون جيدًا ثمن هذه التضحية وينتظرون ثوابها من الله، فأهل الحق يدفعون الثمن أولًا، أما أهل المبادىء الباطلة فيقبضون الثمن أولًا قبل أنْ يتحركوا في اتجاه مبادئهم.
وهذا الابتلاء الذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية الخليفة ليكون أَهْلًا لها.
لذلك قال سبحانه: {وَعَدَ الله} [النور: 55] والوَعْد: بشارة بخير لم يَأْتِ زمنُه بعد، حتى يستعد الناس بالوسيلة له، وضِدّه الوعيد أو الإنذار بشرٍّ لم يأتِ زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافي الوقوع في أسبابه.
وما دام الوعد من الله تعالى فهو صِدْق، كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا} [النساء: 122] وقال سبحانه: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111].
والذي يفسد على الناس وعودهم، ويجرُّ عليهم عدم الوفاء أن الإنسان مُتغِّير بطَبْعه مُتقلِّب، فقد يَعِد إنسانًا بخير ثم يتغير قلبه عليه فلا يفي له بما وعد، وقد يأتي زمن الوفاء فلا يقدر عليه، أمّا الحق تبارك وتعالى فلا يتغير أبدًا، وهو سبحانه قادر على الوفاء بما وعد به، فليست هناك قوة أخرى تمنعه، فهو سبحانه واحد لا إله غيره؛ لذلك فوَعْده تعالى ناجز.
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [النور: 55] قلنا: إن الإيمان الذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوبًا لذاته، إنما لابد أن تكون له ثمرة، وأن يُرى أثره طاعة وتنفيذًا لأوامر الله، فطالما آمنتَ بالله فنفَّذ ما يأمرك به، وهناك من الناس مَنْ يفعل الخير، لكن ليس من منطلق إيماني مثل المنافقين الذين قال الله فيهم: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [الحجرات: 14] فَردَّ الله عليهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يعني: خضعنا للأوامر، لكن عن غير إيمان، إذن: فقيمة الإيمان أن تُنفِّذ مطلوبه.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 13].
فبماذا وعد الله الذين آمنوا؟ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدْعًا، إنما هو أمر مُشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومُشَاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أُذوا وعُذِّبوا واضطهدوا وأُخْرِجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يُؤمَروا بردِّ العدوان.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة في جَمْع من صحابته استقبله الأنصار بالحفاوة، واحتضنوا هؤلاء المهاجرين، وفعلوا معهم نموذجًا من الإيثار ليس له مثيل في تاريخ البشرية، وهل هناك إيثار أعظم من أنْ يعرض الأنصاري زوجاته على المهاجر يقول: اختر إحداهما أُطلِّقها لك، إلى هذه الدرجة فعل الإيمان بنفوس الأنصار.
ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقَّدوا نارًا: كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعًا ضد هذا الدين ليضربوه عن قَوْس واحدة، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم.
حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافةَ إنْ ينقضَّ عليهم أعداؤهم، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه: أتروْنَ أنَّا نعيش حتى نأمن ونطمئن ولانبيت في السلاح ونصبح فيه، ولا ننخشى إلا الله؟ يعني: أهناك أمل في هذه الغاية؟
وآخر يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون.؟ ألاَ يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين؟
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق من وعد ربه، وليس كلامًا قد يُكذَّب فيما بعد: «لا تصبرون إلا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتبيًا ليست فيه حديدة» يعني: في الملأ الواسع، والاحتباء جلسة المستريح الهانىء، والحديدة كناية عن السلاح.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها».
ومعنى «إن الله زوى لي الأرض» معلوم أن للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أمّا الأرض ذاتها فواسعة، فُزويَتْ الأرض لرسول الله يعني: جُمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلها.
إذن: فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214].
وفي غمرة هذه الشدة وقمة هذا الضيق يُنزل تعالى على رسوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] حتى إن الصحابة ليتعجبون، يقول عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ وقد نزلت الآية وهم في مكة في أشد الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم.
لكن بعد بدر وبعد أنْ رأى ما نزل بالكفار قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
ثم ينزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض الآيات التي تُطمئن المؤمنين وتصبرهم: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41].
فاطمئنوا، فكل يوم ننقص من أرض الكفر، ونزيد من أرض الإيمان، فالمقدِّمات في صالحكم، ثم يأتي فتح مكة ويدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في موكب مهيب مُطْأطِئًا رأسه، تواضعًا لمن أدخله، مُظهِرًا ذِلة العبودية لله.
حتى إن أبا سفيان لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموكب يقول للعباس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيمًا، فيقول العباس: إنها النبوة يا أبا سفيان، يعني: المسألة ليست مُلْكًا إنما هو بشائر النصر لدين الله وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكة.
ثم يذهب إلى خيبر معقل أهل الكتاب من بني قَيْنُقَاع وبني النضير وبني قريظة وينتصر عليهم، ثم تسقط في يده البحرين ومجوس هَجَر، ويدفعون الجزية.
بعد ذلك يرسل صلى الله عليه وسلم كُتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، فيرسل إلى النجاشي مَلِك الحبشة، وإلى المقوقِس، وإلى هرقل، وإلى كسرى، وتأتيه الهدايا من كُلِّ هؤلاء.
ويستمر المدُّ الإسلامي والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله، فإنْ كان المد الإسلامي قد شمل الجزيرة العربية على عهد رسول الله، فإنه تعدّاها إلى شتى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الراشدين، حتى ساد الإسلامُ العالمَ كله، وأظهره الله على أكبر حضارتين في ذلك الوقت: حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب في وقت واحد، ويتحقق وعد الله للذين آمنوا بأنْ يستخلفهم في الأرض.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحقق النبؤات التي أخبر بها، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الذي خرج خلف رسول الله في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش، وبعد أن تاب سُرَاقة وعاد إلى الجادة كان الصحابة يعجبون لدقة ساعديْه ويصفونهما بما يدعو إلى الضحك فكان صلى الله عليه وسلم يقول عن ساعدي سراقة: «كيف بهما في سواري كسرى؟».
ويفتح المسلمون بعد ذلك مُلْك كسرى، ويكون سِوَارا كسرى من نصيب سُرَاقة، فيلبسهما، ويراهما الناس في يديه.
هذه كلها بشائر ومقدمات لوعد الله يراها المؤمنون في أنفسهم، لا فيمن يأتي بعد {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] يعني المسألة لن تطول.
كذلك أم حرام بنت ملحان التي خرجت في غزوة ذات الصواري وركبت البحر ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام هناك ثم يصحو وهو يضحك، فقالت له: ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: «أناس من أمتي يركبون زَبَد هذا البحر، ملوك على الأَسِرَّة أو كالملوك على الأَسِرّة» فقال: ادْعُ الله أن أكون منهم، فدعا لها فاستجاب الله دعاءه، وخرجتْ في الغزوة، ولما ركبوا البحر الأبيض أرادت أن تخرج فماتت.