فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر؛ ولا يحبون للحق أن يسود. فهم لا يخشون في حكم الله حيفا، ولا يرتابون في عدالته أصلًا {بل أولئك هم الظالمون}.
فأما المؤمنون حقًا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله. ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ هو القول الذي يليق بالمؤمنين؛ وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور:
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}.
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف. السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى؛ النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء؛ ومن الإطمئان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم. فالله الذي خلق أعلم بمن خلق.
{وأولئك هم المفلحون}.. المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بعلمه وعدله؛ فلابد أن يكونوا خيرًا ممن يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بشر مثلهم، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا.. والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد، لا عوج فيه ولا التواء، مطمئنون إلى هذا المنهج، ماضون فيه لا يتخبطون، فلا تتوزع طاقاتهم، ولا يمزقهم الهوى كل ممزق، ولا تقودهم الشهوات والأهواء.
والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم.
{ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام. فالأن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه. والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة؛ والتحرج من إتيان ما يكره توقيرًا لذاته سبحانه، وإجلالًا له، وحياء منه، إلى جانب الخوف والخشية.
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون، الناجون في دنياهم وأخراهم. وعد الله ولن يخلف الله وعده. وهم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم. فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة. وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون.
وأدب الطاعة لله ورسوله، مع خشية الله وتقواه، أدب رفيع، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته. كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه. فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله، ولا تستمد منها، هي ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن، ويستعلي عليها ضميره. فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار.
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان، وما هم بمؤمنين. بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن. والله يعلم إنهم لكاذبون. فهو يرد عليهم متهكمًا، ساخرًا من أيمانهم: {قل لا تقسموا طاعة معروفة}.. لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها، مفروغ منها، لا تحتاج إلى حلف أو توكيد! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به: لا تحلف لي على صدقك. فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل.
ويعقب على التهكم الساخر بقوله: {إن الله خبير بما تعملون}.. فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد، وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون!
لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة. الطاعة الحقيقية. لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة!
{قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}.
{فإن تولوا} وتعرضوا، أو تنافقوا ولا تنفذوا {فإنما عليه ما حمل} من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه {وعليكم ما حملتم} وهو أن تطيعوا وتخلصوا. وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: {وإن تطيعوه تهتدوا} إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح. {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} فليس مسؤولًا عن إيمانكم، وليس مقصرًا إذا أنتم توليتم. إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول.
وبعد استعراض أمر المنافقين، والانتهاء منه على هذا النحو.. يدعهم السياق وشأنهم، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين، يبين جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
ذلك وعد الله للذين أمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا.. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده.. فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعًا.. يتوجه بهذا كله إلى الله.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلًا للاستخلاف والتمكين والأمن: {يعبدونني لا يشركون بي شيئًا} والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض.. أمانة الاستخلاف.
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم.. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله.. فاما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان.. فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}.. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض.. ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.
{وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا}.. ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبدًا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سرًا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تصبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة» وأَنزل الله هذه الآية، فأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان.
حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل اللّه عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم.
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.. الخارجون على شرط اللّه. ووعد اللّه. وعهد اللّه.
لقد تحقق وعد اللّه مرة. وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط اللّه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.. لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون- من الإيمان- ويعملون صالحا. ووعد اللّه مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن.
لتخلف شرط اللّه في جانب من جوانبه الفسيحة أو في تكليف من تكاليفه الضخمة حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف.
كل ذلك بوسائله التي أرادها اللّه، وبشروطه التي قررها اللّه.. تحقق وعد اللّه الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقة قوة من قوى الأرض جميعا.
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة وبألا يحسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم} الآية. قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له، سرًا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال وكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغيروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلًا من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغيروا إلا قليلًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليست فيهم جديدة» فأنزل الله {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} إلى آخر الآية. فاظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في امارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم.