فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

إن الله تعالى ذكر هاهنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت في ماذا؟ فلابد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر، والذي تقدم هو ذكر الجماع، والذي تأخر قوله: {فالئن باشروهن} فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع، ثم هاهنا وجهان: أحدهما: علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله، لأنه جلب إليها العقاب، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم، لأن قوله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم.
القول الثاني: أن المراد: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه: أن الله يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سببًا لنسخ التكليف، وعلى التقدير الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سببًا لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة. اهـ.
قال ابن عرفة: هذا من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر لأنّ النفس هي الخائنة قال تعالى: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد}. اهـ.

.قال ابن العربي:

وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة، وخفّف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه. اهـ.

.قال الفخر:

لابد فيه من إضمار تقديره: تبتم فتاب عليكم فيه. اهـ.

.قال البقاعي:

وفي قوله: {وعفا عنكم} أي بمحو أثر الذنب إشعار بما كان يستحق ذلك من تطهر منه من نحو كفارة وشبهها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله تعالى: {فالئن باشروهن} الأمر للإباحة، وليس معنى قوله: {فالئن} إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم. اهـ.

.قال الفخر:

المباشرة فيها قولان:
أحدهما: وهو قول الجمهور: أنها الجماع، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما، ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة.
الثاني: وهو قول الأصم: أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرون في معنى قوله: {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقًا من تلاصق البشرتين لم يكن مختصًا بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج، وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه، فصح هاهنا حمل الكلام على الجماع فقط، ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه، فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه، على ما لخصه القاضي. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} قد تقدَّم الكلام على الآنَ وفي وقوعه ظرفًا للأمر تأويلٌ، وذلك أنه للزمن الحاضر، والأمر مستقبلٌ أبدًا، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال: وَالآنَ: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلًا للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأنَّ قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ}، أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ، وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر، فالآن على حَقِيقَتِهِ. وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه.
قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر، لا جوع قيس، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍ لقال: فَالآن كُلُوا ابتداءً به؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله. اهـ.

.قال الفخر:

ذكروا في الآية وجوها:
أحدها: وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام: «تناكحوا تناسلوا تكثروا».
وثانيها: أنه نهى عن العزل، وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها: أن يكون المعنى: ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] ورابعها: أن هذا التأكيد تقديره: فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم.
وخامسها: وهو على قول أبي مسلم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم.
وسادسها: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن.
وسابعها: أن قوله: {فالئن باشروهن} إذن في المباشرة وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] وثامنها: قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها، وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه، وعندي أنه لا بأس به، وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة، لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور، أما إذا قضى وطره وصار فارغًا من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية، فتقدير الآية: فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية، وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الإخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر، ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة. اهـ.
قال الفخر:
{كَتَبَ} فيه وجوه أحدها: أن {كَتَبَ} في هذا الموضوع بمعنى جعل، كقوله: {كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادله: 22] أي جعل، وقوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] {فسأكتبها لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] أي اجعلها وثانيها: معناه قضى الله لكم كقوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] أي قضاه، وقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله: {لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} [آل عمران: 154] أي قضى، وثالثها: أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن، وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها: هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال. اهـ.

.قال البقاعي:

{وكلوا واشربوا} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء وقال: «إن الماء طهور»، وفي تقديم الأكل إجراء لحكم هذا الشرع على وفق الطبع. انتهى.
ولأنه سبب العطش، ودل على وجوب تبييت النية وجواز تأخير الغسل إلى النهار، بقوله: {حتى} فإن في جعل تبين الفجر غاية لحل المفطرات إيجابًا لمراقبته للكف عنها، وذلك هو حقيقة النية، ومن استمر مباشرًا إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال ليلًا وقال: {يتبين} قال الحرالي: بصيغة يتفعل وهو حيث يتكلف الناظر نظره، وكأن الطالع، يتكلف الطلوع، ولم يقل: يبين، لأن ذلك يكون بعد الوضوح. انتهى.
وفي قوله: {لكم} بيان لأن الأحكام بحسب الظاهر وأن التكليف بما في الوسع {الخيط الأبيض} قال الأصبهاني: وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. وقال الحرالي: فمد إلى غاية انتهاء الليل وتبين حد النهار بأرق ما يكون من مثل الخيط {من الخيط الأسود} قال الأصبهاني: وهو ما يمتد معه من غبش الليل أي البقية من الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل، شبها بخطين أبيض وأسود. وقال الحرالي: ففيه إنهاض لحسن الاستبصار في ملتقى الليل والنهار حتى يؤتى العبد نور حسن بتبين ذلك على دقته ورقته وقد كان أنزل هذا المثل دون بيان ممثوله حتى أخذ أعرابي ينظر إلى خيطين محسوسين فأنزل: {من الفجر} يعني فبين الأبيض، فأخرجه بذكر المشبه من الاستعارة إلى التشبيه لأن من شرائطها أن يدل عليها الحالة أو الكلام، وهذه الاستعارة وإن كانت متعارفة عندهم قد نطقت بها شعراؤهم وتفاوضت بها فصحاؤهم وكبراؤهم لم يقتصر عليها، وزيد في البيان لأنها خفيت على بعض الناس منهم عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، فلم تكن الآية مجملة ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة، ولو كان الأمر كذلك ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على عدي رضي الله تعالى عنه عدم فهمها.
وقال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه بناء على أنها مجملة: والخطاب بالإجمال ممكن الوقوع وليس يلزم العمل به فالإلزام تكليف ما لا يطاق وإلزام العمل يستلزم البيان وإلا عاد ذلك الممتنع، وتأخير بيان المجمل إلى وقت الإلزام ممكن، لأن في ذلك تناسب حكمة الوحي المنزل بحكمة العالم المكون، فإن الإجمال في القرآن بمنزلة نطق الأكوان والبيان فيه بمنزلة تخطيط الصور وذلك ظاهر عند من زاوله، وحينئذ فلا يقال: خطاب الإجمال عديم الفائدة لأنه يفيد تدريج حكمة التنزيل وتحصيل بركة التلاوة، وفي الاقتصار على بيانه نمط من فصاحة الخطاب العربي حيث لم يكن فيه ذكر الممثولين اكتفاء بأحدهما عن الآخر، ففيه تأصيل لأصل البيان من الإفهام حيث لم يقل: من الليل، كما قال: من الفجر، اكتفاء بما في الفهم من الذكر، وفي وقوع المبين إثر غير مثله نمط آخر من فصاحة الخطاب العربي لأن العرب يردون الثالث إلى الأول لا إلى الثاني ليتعلق بالأول في المعنى وينتظم بالثاني في اللفظ فيكون محرز المحل المفهوم راجعًا إلى الأول بالمعنى. انتهى.
وأوضح دليل على إيجاب التبييت أمره بالإتمام، فإنه لما وقع الشروع فيه فالتقدير: فإذا تبين الفجر الذي أمرتم بمراقبته لكونه غاية لما أحل لكم فصوموا أي أمسكوا عن المفطر. اهـ.
سؤال: ما الفائدة في ذكرهما {وكلوا واشربوا}؟
الجواب: الفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم، لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم، فلو اقتصر تعالى على قوله: {فالئن باشروهن} لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب، فقرن إلى ذلك قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} لتتم الدلالة على الإباحة. اهـ.

.قال الفخر:

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، وقال: «إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل»، وإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لعريض القفا» لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل، ونقول: يدل قطعًا على أنه تعالى كنى بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل، وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط، فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك.
وجوابه: أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية: {مِنَ الفجر} لكان السؤال لازمًا، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجرًا لأنه ينفجر منه النور، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول، فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق، فإن قيل: فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل.
وجوابه: أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشرًا بل يكون صغيرًا دقيقًا، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقًا، والصادق يبدو دقيقًا، ويرتفع مستطيلًا فزال السؤال، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الاستعارة مع قوله تعالى: {مِنَ الفجر}. اهـ.